العربية

شهود الثورة الدائمة: إسهام كبير في دراسة الاستراتيجية السياسية الماركسية  

نُشرت هذه المقالة في الأصل باللغة الإنجليزية في 11 أبريل 2010

'شهود على الثورة الدائمة: السجل الوثائقي' من تحرير وترجمة ريتشارد بي داي ودانيال جايدو (دار بريل ، 2009)

يُعد منشور 'شهود الثورة الدائمة: السجل الوثائقي' حدثاً رئيسياً في دراسة الأسس النظرية لثورة أكتوبر عام 1917. إن الوثائق المعروضة في هذا المجلد الكبير (677 صفحة) ، التي جمعها وترجمها وقدمها المؤرخان ريتشارد بي داي ودانيال جايدو ، تقدم مراجعة شاملة للخلافات والجدالات التي انبثقت عنها نظرية الثورة الدائمة. أنتج داي وغايدو كتاباً لا غنى عنه لأولئك الذين يرغبون في فهم تطور النظرية الماركسية والاستراتيجية الثورية في القرن العشرين.

ريتشارد داي ، الذي درس لسنوات عديدة في جامعة تورنتو في ميسيسوجا ، يحظى باحترام بوصفه مرجعاً في التاريخ والاقتصاد والسياسة السوفيتية. لا يزال أشهر أعماله ، ليون تروتسكي وسياسة العزلة الاقتصادية (1973) ، عرضاً هاماً للقضايا النظرية الحاسمة التي كمنت وراء الصراع حول السياسة الاقتصادية في الاتحاد السوفيتي في العقد الثاني من القرن الماضي. عمل داي على حياة وأفكار E. Preobrazhensky ، بما في ذلك ترجمة كتاب 'تراجع الرأسمالية' (1985) ،وأنقذ من النسيان التاريخي هذه الشخصية المهمة في المعارضة اليسارية التروتسكية ، التي اغتالها ستالين في خاتمة المطاف في عام 1937. كتب الأستاذ داي مقالات حول مجموعة واسعة من الموضوعات ، بما في ذلك الفلسفة الماركسية. وهو يستعد حالياً لنشر مجلد جديد من كتابات بريوبرازينسكي التي لم تكن معروفة من قبل.

أما دانيال جايدو ، فمن مواليد الأرجنتين ، عاش ودرس في إسرائيل لأكثر من عقد. شارك بنشاط في النضال من أجل الدفاع عن الحقوق الديمقراطية للفلسطينيين. وعاد جايدو مؤخراً إلى الأرجنتين. تتضمن أعماله المنشورة كتاب 'الفترة التكوينية للرأسمالية الأمريكية: شرح مادي' (2006) التاريخ الأمريكي ، كما يوضح المجلد قيد المراجعة ،وهذا ليس مجال بحثه الوحيد حيث كتب جايدو على نطاق واسع عن تاريخ الحركة الاشتراكية الألمانية ، ويقوم حالياً بإعداد كتاب عن تاريخ للحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني خلال فترة الأممية الثانية.

يتمثل الهدف المركزي من كتاب شهود الثورة الدائمة في إعادة بناء النطاق الفكري المثير للإعجاب للنقاش الذي انبثقت عنه نظرية الثورة الدائمة. في حين أن الكتاب لم يعترض على الدور الحاسم الذي لعبه تروتسكي في صياغة المفهوم ، والأهم من ذلك ، في تطبيقه الاستراتيجي والعملي في نضالات الطبقة العاملة الروسية ، سعى داي وغايدو إلى تعريف القارئ بإسهامات المفكرين الاجتماعيين المهمين الآخرين مثل فرانز ميهرينغ وروزا لوكسمبورغ وألكسندر هيلهاند (بارفوس) وكارل كاوتسكي وديفيد ريازانوف الأقل شهرة. ما كان تروتسكي ليعترض على سرد تفصيلي لأصول النظرية التي أصبح من المتفق عليه ربطها به بشكل مكثف وشخصي.

ففي عام 1923 ، تطورت الهجمات الحزبية على ليون تروتسكي ، التي أطلقها المكتب السياسي الثلاثي لزينوفييف وكامينيف وستالين ، بسرعة وتحولت إلى حملة ضد نظرية الثورة الدائمة. كل إخفاقات تروتسكي الشخصية المزعومة وأخطاءه السياسية، وما سمي بـ 'بخس شأن الفلاحين' و 'مناهضته الراسخة للبلشفية' كان مصدرها ، كما  أُعلن مراراً وتكراراً ، تلك العقيدة الخبيثة. فبين أبريل وأكتوبر من عام 1917 ، قدمت نظرية الثورة الدائمة الأساس الاستراتيجي لنضال الحزب البلشفي ضد الحكومة البرجوازية المؤقتة وحلفائها المناشفة. لكن بعد ست سنوات فقط ، تم استنكارها على أنها انحراف هرطقي عن المبادئ الماركسية. وبما أن تروتسكي لم يشهد فقط تحريف أفكاره الخاصة ، بل شهد أيضاً تزييف تاريخ النظرية الاشتراكية ،نجد أنه كتب بسخط واضح:

إن تعبير 'الثورة الدائمة' هو تعبير صاغه ماركس ، وطبقه على ثورة 1848. ففي الأدبيات الماركسية، بطبيعة الحال ليس في الأدبيات الماركسية التحريفية، ولكن في الأدبيات الماركسية الثورية، كان هذا المصطلح حاضراً باستمرار وقد استخدمه فرانز ميهرينج في ثورة 1905-1907. إن الثورة الدائمة ، في ترجمة دقيقة ، هي الثورة المستمرة، الثورة غير المنقطعة. [1] 

ماركس وإنجلز و 'الثورة الدائمة'

أيد داي وغايدو إصرار تروتسكي على الأصل الماركسي لنظرية الثورة الدائمة. كما لاحظا ، أنه في وقت مبكر من عام 1843،  كتب ماركس في مقالته عن المسألة اليهودية إن الدولة يمكن أن تحقق إلغاء الدين 'فقط من خلال الدخول في تناقض عنيف مع ظروف حياتها الخاصة، وفقط من خلال إعلان أن الثورة دائمة'.[2]  والأهم من ذلك ، في مارس 1850 ، كتب ماركس و إنجلز ، في 'خطابهما من السلطة المركزية إلى العصبة' ، في معارضة للبرجوازية الصغيرة الديمقراطية ، أن مهمة العمال كانت: 

جعل الثورة دائمة حتى يتم طرد جميع الطبقات المالكة إلى حد ما من مواقعها الحاكمة، إلى أن تغزو البروليتاريا سلطة الدولة و ... تتقدم بشكل كافٍ ، ليس فقط في بلد واحد ولكن في جميع البلدان الرائدة في العالم. أن المنافسة بين البروليتاريين في هذه البلدان تتوقف وتتركز على الأقل قوى الإنتاج الحاسمة في أيدي العمال. لا يمكن أن يكون اهتمامنا ببساطة هو تعديل الملكية الخاصة ، ولكن إلغائها ، ليس لإسكات الخصومات الطبقية ولكن لإلغاء الطبقات ، وليس لتحسين المجتمع الحالي ولكن لتأسيس مجتمع جديد. [3]

تطور مفهوم ديمومة الثورة من تجربة النضالات الطبقية التي اجتاحت أوروبا في عام 1848. بعد مرور أكثر من نصف قرن على تحطم اليعاقبة ، الذين مثلوا الجناح الأكثر راديكالية في البرجوازية الصغيرة الديمقراطية، وتم ذلك  بمساعدة الإرهاب الثوري ، وضع النظام الإقطاعي القديم الأساس لتأسيس دولة برجوازية في فرنسا. وفي الفترة الفاصلة بين المرحلتين  ، أصبح الهيكل الاجتماعي لأوروبا أكثر تعقيداً حيث تغيرت الطبيعة السياسية للصراع السياسي المستمر بين النخب البرجوازية والنخب الأرستقراطية القديمة  وتداعياته  نتيجة ظهور قوة اجتماعية جديدة ، هي البروليتاريا وهي طبقة بلا ملكية. أصبحت البرجوازية خائفة من أن الانتفاضة الشعبية ضد الأرستقراطية القديمة ، التي كانت تنجذب إليها الجماهير البروليتارية الجديدة ، قد تتخذ أبعاداً لا تهدد بقايا الامتيازات الإقطاعية فحسب  بل وتهدد الملكية الرأسمالية.

في نضالات عام 1848 وما تلاها مباشرة ، سعت البرجوازية إلى احتواء النضال الثوري  على حساب الطبقة العاملة. ففي فرنسا ، المركز القديم للثورة وأكثر الدول الأوروبية تقدماً على المستوى السياسي  ، وجدت العلاقات الطبقية الجديدة تعبيراً وحشياً عنها في مذبحة البروليتاريا الباريسية في يونيو 1848 على يد القوة العسكرية بقيادة الجنرال كافينياك. أما خارج حدود فرنسا ، فكانت البرجوازية مستعدة للتنازل لصالح الأرستقراطية القديمة ، حتى إلى حد التخلي عن مطلب إنشاء جمهورية ديمقراطية وقبول استمرار الهيمنة الأرستقراطية على الدولة. كان هذا هو مصير الثورة الألمانية ، التي استسلمت فيها البرجوازية سياسياً للأرستقراطية البروسية بسبب رعبها من الانتفاضات الشعبية و 'شبح الشيوعية'.

لقد سهل ممثلو البرجوازية الصغيرة 'اليسارية' خيانة البرجوازية لثورتها البرجوازية 'الخاصة'  والتي أثبتت في كل مرحلة حرجة أنها حليف غير جدير بالثقة للطبقة العاملة. كما أوضح ماركس و إنجلز تحت 'عنوان السلطة المركزية':

وبعيداً عن الرغبة في تغيير المجتمع كله من أجل البروليتاريين الثوريين ، فإن البرجوازية الصغيرة الديمقراطية سعت إلى تغيير الظروف الاجتماعية بحيث يصبح المجتمع القائم مقبولاً ومريحاً قدر الإمكان. [4] 

خلص ماركس و إنجلز إلى أنه لا ينبغي للطبقة العاملة أن تسمح بتقييد نضالاتها ومصالحها والقبول بالخيانة. بل يجب على العمال:

بذل قصارى جهدهم لتحقيق، في أقرب وقت ممكن، انتصارهم النهائي من خلال توضيح مصالحهم الطبقية لأنفسهم عبر اتخاذ موقفهم بوصفهم حزب مستقل وعدم السماح بتضليل أنفسهم للحظة واحدة من خلال العبارات المنافقة مثل دعوات البرجوازية الصغيرة الديمقراطية إلى الامتناع عن التنظيم المستقل لحزب البروليتاريا. يجب أن تكون صيحتهم ديمومة الثورة  .[5]

وبعد خمسين عاماً ،و في مطلع القرن العشرين ، أصبح المغزى السياسي لهذه الصرخة القتالية وانعكاساته موضوع نقاش حاد داخل الحركة الاشتراكية الروسية سريعة النمو.كان مما لا جدال فيه أن البلاد كانت تتجه بلا هوادة نحو ثورة ديمقراطية من شأنها أن تكتسح نظاماً استبدادياً عمره 300 عام. ولكن بعيداً عن هذه الفرضية المشتركة ، ظهرت آراء متباينة بشدة في ما يتعلق بديناميكيات الطبقة والأهداف السياسية ، وأخيراً ، العواقب الاجتماعية والاقتصادية للحركة الثورية. هل ستتبع الثورة الروسية نمط الثورة الفرنسية 'الكلاسيكية' في 1789 - 1794 ، التي أدى فيها الإطاحة بالاستبداد الإقطاعي في النهاية إلى حكم سياسي برجوازي قائم على العلاقات الاقتصادية الرأسمالية؟ أم أن الثورة الديمقراطية في روسيا ، التي تطورت بعد أكثر من قرن وتحت ظروف اجتماعية اقتصادية متغيرة بشكل كبير ، ستتخذ بالضرورة شكلاً مختلفا ًتماماً؟ هل كانت هناك برجوازية ثورية في روسيا عام 1900 كما كان الحال في فرنسا عام 1790؟ هل البرجوازية الروسية مستعدة حقا لخوض ، نضال ثوري ضد الحكم المطلق أو حتى لدعمه ؟

قبل كل شيء ، كيف سيتأثر تطور الثورة الديمقراطية بحقيقة أن القوة الاجتماعية الأكثر نشاطًا وديناميكية في روسيا مع دخولها القرن العشرين كانت الطبقة العاملة الصناعية؟ كانت إضرابات تسعينيات القرن التاسع عشر قد كشفت بالفعل عن قوة الطبقة العاملة التي كانت تنمو بسرعة بينما كان تدفق رأس المال الأجنبي إلى روسيا يمول التصنيع على نطاق واسع. ما هو الدور الذي ستلعبه البروليتاريا الصناعية في الثورة الديمقراطية؟ لا يمكن أن يكون هناك شك في أن قوتها ستكون حاسمة في الإطاحة بالحكم المطلق. لكن هل الطبقة العاملة بعد ذلك ستقبل نقل السلطة السياسية إلى عدوها الطبقي ، البرجوازية الروسية؟ أم أن العمال سيتجاوزون حدود الثورة الديمقراطية 'الكلاسيكية' ، ويسعون إلى أخذ السلطة بأيديهم ، والقيام بإعادة هيكلة اقتصادية بعيدة المدى للمجتمع الذي ينتهك حرمة الملكية الرأسمالية؟

أدى طرح هذه الأسئلة إلى إعادة النظر والمزيد من الاستنباط لمفهوم ماركس-إنجلز للثورة الدائمة. و تشهد الوثائق التي تم تضمينها في هذا الكتاب على العمق الفكري للمناقشة التي اندلعت في الحركة الاشتراكية الروسية والألمانية بين عامي 1903 و 1907. فعلى خلفية الأزمة السياسية المتفاقمة للحكم المطلق ، كان هناك استياء متزايد من المنظور السياسي الذي وجّه حزب العمل الاشتراكي الديمقراطي الروسي منذ تأسيسه. ظهرت اعتراضات نظرية وسياسية على تصور للثورة الديمقراطية الذي قبل ، على الفور ، أن الإطاحة بالقيصر ستضع بالضرورة السلطة السياسية في أيدي البرجوازية الروسية.

إسهام بليخانوف

تم تحديد هذا المنظور بشكل أساسي مع عمل جورجي بليخانوف ، 'أبو الماركسية الروسية'. أكد بليخانوف أنه في النضال ضد القيصرية ، يجب أن تتحالف الطبقة العاملة مع البرجوازية الليبرالية. وما أن تتم الإطاحة بالحكم المطلق ، سيتم إنشاء نسخة روسية من الديمقراطية البرلمانية. كان من المقرر أن يدخل حزب الطبقة العاملة البرلمان الروسي بوصفه المعارضة الاشتراكية ، سعياً لدفع النظام الديمقراطي الليبرالي إلى أقصى اليسار قدر الإمكان. لكن البلد سيستمر في التطور ، إلى أجل غير مسمى ، على أساس رأسمالي. ففي النهاية ، لم يعرف أحد على وجه التحديد متى ستصبح روسيا ناضجة بما يكفي ، سياسياً واقتصادياً ، من أجل الاشتراكية. عند هذه النقطة ، ستشرع الطبقة العاملة في الإطاحة بالنظام البورجوازي.

كانت المشكلة المركزية في هذا المنظور هي أنه سعى إلى تفسير طبيعة ومهام الثورة الديمقراطية وفقاً لصيغة تجاوزها التاريخ. ففي الواقع ، أصر بليخانوف ، منذ عام 1889 ، على أن الثورة الديمقراطية في روسيا لا يمكن أن تنجح إلا  بوصفها ثورة عمالية. لكن إذا كان على الطبقة العاملة ، كما أكد بليخانوف باستمرار ، أن تكون القوة الحاسمة في الإطاحة بالحكم المطلق ، فلماذا تنتقل السلطة السياسية بالضرورة إلى أيدي البرجوازية الليبرالية؟ الجواب الوحيد الذي استطاع بليخانوف تقديمه في محاولة لإسكات مثل هذه الأسئلة هو أن التنمية سلطة السياسية وتنفيذ تدابير ذات طابع اشتراكي.

إسهام كاوتسكي

كان كارل كاوتسكي أول منظر هام اقترح أن التطور الروسي قد يسلك مساراً مختلفاً تماماً عن ذلك التصور وفق النموذج التقليدي للثورة الديمقراطية البرجوازية. فبين عامي 1902 و 1907 ، كتب كاوتسكي سلسلة من الوثائق، أعيد إنتاجها في هذا المجلد ، قوضت بشكل خطير سلطة منظور بليخانوف العقائدية ، وأسهمت في تطوير موقف نقدي تجاه السوابق القديمة ، وشجعت العمل الرائد وهو كان من جيل أصغر من منظري الديمقراطية الاجتماعية الروس والبولنديين ، بمن فيهم ليون تروتسكي وروزا لوكسمبورغ.

وفي مقال صدر عام 1902 بعنوان 'السلاف والثورة' ، تساءل كاوتسكي عن الافتراض القائل بأن البرجوازية الروسية ستلعب دوراً ثورياً في النضال ضد القيصرية. لقد تغيرت ديناميكية العلاقات الطبقية بشكل عميق منذ عهد الثورات الديمقراطية السابقة. كتب كاوتسكي: 'بعد عام 1870 ، بدأت البرجوازية في جميع البلدان تفقد ما تبقى لها من الطموح الثوري. و منذ ذلك الوقت فصاعداً ، أن تكون ثورياً عنى أيضاً أن تكون إشتراكياً ' [6]. 

في مقال مؤثر آخر ، بعنوان استفزازي 'ما مدى تقادم البيان الشيوعي؟' كتب كاوتسكي أول مرة عام 1903 ثم نقحه عام 1906 ، فصرح:

بقدر ما يمكن أن نتحدث عن 'خطأ' في البيان ونعتبر النقد ضرورياً ، يجب أن يبدأ هذا تحديداً بـ 'العقيدة' القائلة بأن البرجوازية ثورية من الناحية السياسية. إن نكوص الثورة عن طريق التطور خلال الخمسين سنة الماضية نبع من حقيقة أن البرجوازية الثورية لم تعد موجودة.  [7]

من أهم إنجازات مختارات داي-جايدو تذكرها ، وفقاً للسجل التاريخي الحقيقي ، للدور الهام الذي لعبه كاوتسكي قبل الحرب العالمية الأولى في تطوير منظور الثورة الدائمة. ويذكر داي و غايدو إنهما يأملان في أن يساعد نشر كتابات كاوتسكي عن الثورة الروسية 'في التغلب على النظرة النمطية والخاطئة لكاوتسكي باعتباره رسولًا للتهدئة ومصلحًا متخفيًا في عبارات ثورية'.  [8]وأضافا:

هذا الرأي ، وهو تعميم مفرط مأخوذ من جدالات كاوتسكي المناهضة للبلاشفة بعد عام 1917 ، طوره الفيلسوف اليساري المتطرف كارل كورش في رده على عمل كاوتسكي النظرة المادية للتاريخ 1927) وأصبح راسخاً في الأوساط الأكاديمية بعد نشر كتاب إريك ماتياس 'كاوتسكي والكاوتسكيةً. قدم كاتب سيرة كاوتسكي الرئيسي ، ماريك والدنبرغ ، مادة وفيرة لدحض هذه الأطروحة، التي لم يشاركها لينين ولا تروتسكي ، وكلاهما أوصى دائماً بكتابات فترة كاوتسكي الثورية الموجهة للعمال الشيوعيين.  [9]

كانت خيانة كاوتسكي اللاحقة للاشتراكية تنكراً لعمله. ولما استخدم لينين ذات مرة عبارة 'ما مدى جودة كتابة كاوتسكي ' ، أعرب في ذلك عن استيائه وغضبه من الانهيار السياسي والفكري للرجل الذي كان معلمه.سيوضح هذا المجلد لماذا كانت خيانة كاوتسكي في أغسطس 1914 صادمة للغاية لجيل كامل من الثوريين. تتضمن المختارات العديد من المقاطع الرائعة حقاً من كتابات كاوتسكي الثورية ، بحيث يصعب مقاومة إغراء إثقال كاهل هذه المراجعة باقتباسات تكشف أن 'بابا الماركسية' للأممية الثانية كان شديد الإدراك ، وبعيد النظر ، ومتصلب الأفق ومجادلاً. وبالعودة إلى الوراء ، من الممكن اكتشاف (كما سنلاحظ لاحقاً) نقاط الضعف السياسية في بعض المفاهيم التي طرحها كاوتسكي ، لاسيما لما كتب عن الآثار المترتبة على الصدام المباشر بين الطبقة العاملة والدولة. لكن التناقض بين الصورة النمطية لكاوتسكي بوصفه أستاذاً جامعياً شارد الذهن ، ينتظر برضاء قدوم الثورة كهدية توفرها الضرورة التاريخية ، يظهر الإنسان الحقيقي. ففي وثيقة نُشرت في فبراير 1904 بعنوان 'أسئلة ثورية' ، جادل كاوتسكي ضد القدرية السياسية التي كان من المفترض ، وفقاً للعديد من النقاد الأكاديميين ، أن تكون مخزونه في التجارة:

العالم ليس منظماً عن قصد بحيث يؤدي دائماً إلى انتصار الثورة حين يكون ذلك ضرورياً لمصلحة المجتمع. ولما نتحدث عن ضرورة انتصار البروليتاريا والاشتراكية التي تنجم عنه ، فإننا لا نعني أن النصر حتمي أو حتى ، كما يعتقد كثير من نقادنا ، أنه سيحدث تلقائياً وبيقين جبري حتى عندما تكون الطبقة الثورية لا تزال خاملة. يجب فهم الضرورة هنا بمعنى أن الثورة هي الإمكانية الوحيدة لمزيد من التطور. وحيث لا تنجح البروليتاريا في هزيمة خصومها ، لن يتمكن المجتمع من التطور أكثر ؛ يجب أن تكون البروليتاريا إما راكدة و تتعفن وإما ثورية. [10]

يتضمن مقال آخر ، تحت عنوان 'اللامتسرولون في الثورة الفرنسية' ، الذي كتب في الأصل عام 1889 وأعيد نشره في عام 1905 ، مدحاً للإرهاب الثوري. ووفقاً لكاوتسكي ، فإن إرهاب نظام اليعاقبة «كان أكثر من سلاح حرب لإثارة غضب وترويع العدو الداخلي الخفي ؛ كما عمل على بث الثقة في المدافعين عن الثورة لمواصلة نضالهم ضد الأعداء الخارجيين '.[11]

تأثير ثورة 1905

وماذا عن الادعاء بأن كاوتسكي ، بوصفه مادة 'مبتذلة' لا يمكن إصلاحها ، لم يعط أي معنى على الإطلاق لدور العنصر الذاتي في السياسة؟ أم أن كاوتسكي لم يدرك إلا الدوافع الاقتصادية الجافة وغير الشخصية ، وأنه فشل في السماح بأن تلعب العواطف والمثل العليا أي دور مهم في النشاط السياسي للطبقة العاملة؟ سوف يفاجأ أولئك الذين قبلوا هذه الصورة النمطية لكاوتسكي حين يكتشفون أنه عد غياب 'الرومانسية الثورية' بين العمال الأمريكيين وانتشار ' رأسمالية أكثر انعداماً للضمير' بين المثقفين عاملين مهمين  في ضعف الاشتراكية في الولايات المتحدة. [12]

كما أوضحت المختارات في الكتاب، فإن انخراط كاوتسكي النشط في الشؤون الروسية لم يكن مجرد تعبير عن اهتمام فطري طيب القلب بمشاكل رفاقه الشباب المنخرطين في معركة حياة أو موت ضد الدولة البوليسية الرجعية الشرسة التي ترأسها القيصر. اعتبر كاوتسكي وحليفته المقربة آنذاك روزا لوكسمبورغ أن الأحداث في روسيا ، لا سيما في أعقاب الحرب الروسية اليابانية وانفجار ثورة 1905 ، حاسمة لمصير الحركة الاشتراكية في ألمانيا. 

كان كاوتسكي ، مثل لوكسمبورغ ، مهتماً بالسلطة المتزايدة للنقابات في تحديد الخط السياسي للحزب الاشتراكي الديمقراطي (الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني). وعلى الرغم من الانتصار الرسمي للماركسيين الأرثوذكس على تحريفية إدوارد برنشتاين في مؤتمر الحزب في دريسدن في سبتمبر 1903 ، فإن الضغط الذي مارسته النقابات العمالية مثل خطراً أكبر على وجود الحزب الاشتراكي الديمقراطي  بوصفه حركة ثورية. أدى اندلاع ثورة 1905 إلى اشتداد الصراع السياسي داخل الحزب حيث اعتبر قادة القوى اليسارية داخل الحزب الاشتراكي الديمقراطي أن الإضرابات الجماهيرية في روسيا بمثابة نذير لروح جديدة للنضال الثوري والتضحية بالنفس في ألمانيا. حتى رودولف هيلفردينغ ، الذي أصبح في ما بعد إصلاحياً ، استوحى الإلهام من الاضطرابات الروسية و كتب إلى كاوتسكي في 14 نوفمبر 1905 ما يلي:

إن انهيار القيصرية هو بداية ثورتنا ، وبداية انتصارنا الذي يقترب الآن. أما التوقعات التي عبر عنها ماركس عن طريق الخطأ بشأن حركة التاريخ عام 1848 ، فنأمل أن تتحقق الآن .  [13]

كان كاوتسكي أكثر حماساً تجاه النضالات الجماهيرية. لقد كتب في تموز / يوليو 1905: 'إن ثورة الديمومة هي ... بالضبط ما يحتاجه عمال روسيا'. [14] وأعلن كاوتسكي أن

عصر من التطورات الثورية قد بدأ. إن عصر التقدم البطيء والمؤلم وغير المحسوس تقريباً سوف يفسح المجال لعصر من الثورات ، من القفزات المفاجئة إلى الأمام ، وربما حدوث هزائم كبيرة بين الحين والآخر ، ولكن يجب أن نثق في قضية البروليتاريا  وبالنصر في نهاية في نهاية المطاف. [15] 

لكن الثورة التي رفعت معنويات الميول المتشددة داخل الحزب الاشتراكي الديمقراطي ملأت القيادة النقابية بالرهبة والاشمئزاز وبالخوف من تأثير المثال الروسي ، حيث رفض المؤتمر الخامس لنقابات العمال الاشتراكية الديمقراطية الحرة ، الذي عقد في مايو 1905 في كولن ، الإضراب الجماهيري وحظر التحريض الذي روج له. كما هاجم رئيس الحزب الاشتراكي الديمقراطي، أوغست بيبل ، النزعة النقابية 'الخالصة والبسيطة' ودعم قراراً أقره مؤتمر الحزب المنعقد في جينا في سبتمبر 1905 ، أيد الإضراب الجماهيري للنضال من أجل الحقوق الديمقراطية.

ومع ذلك ، تغير ميزان القوى بين الحزب الاشتراكي الديمقراطي والنقابات العمالية بشكل جذري ، على حساب الحزب ، خلال العقد الماضي. على الرغم من أن النقابات تأسست تحت قيادة الحزب ، إلا أن النقابات العمالية ، مع نمو عدد أعضائها وتضخم حساباتها المصرفية ، اكتسبت مصالح متميزة ومعادية للثورة. وكما أعلن ثيودور بوميلبورغ ، المتحدث باسم النقابات ، بصراحة ، فإن ما أرادته النقابات  قبل كل شيء هو 'السلام والهدوء'. [16]

وبحلول عام 1905 ، كان الدخل السنوي للنقابات العمالية أكبر بحوالي خمسين مرة من دخل الحزب الاشتراكي الديمقراطي. وبقدر ما أصبح الحزب الاشتراكي الديمقراطي معتمداً بشكل متزايد على الإعانات من النقابات العمالية ، فقد أصبح خاضعاً لمطالبها. علاوة على ذلك ، لا بد أن قادة الحزب الاشتراكي الديمقراطي ذوي الخبرة مثل بيبل أدركوا احتمال أن تنفصل النقابات العمالية عن الحزب الاشتراكي الديمقراطي وأن تنشئ ، بالتحالف مع فئات من التحريفيين ، حزباً 'عمالياً' مناهضاً للثورة .الأمر الذي  من شأنه خلق الظروف لهجوم عنيف من قبل الدولة على الحزب الاشتراكي الديمقراطي. كان الضغط على قادة الحزب الاشتراكي الديمقراطي لاسترضاء النقابات العمالية هائلاً. وهكذا ، وعلى الرغم من تمرير قرار الإضراب الجماهيري في مؤتمر جينا ، اجتمع المكتب التنفيذي للحزب الاشتراكي الديمقراطي سراً مع المفوضية العامة للنقابات العمالية. استسلم بيبل لمطالبة النقابات العمالية بالتعهد بأن الحزب الاشتراكي الديمقراطي 'سيحاول منع إضراب جماهيري قدر الإمكان'.  [17] 

وحذرت الهيئة العامة الحزب الاشتراكي الديمقراطي من أنه في حالة حدوث إضراب سياسي ، فإن النقابات العمالية ستحجب دعمها.  كان التنازل الوحيد الذي قدمته النقابات العمالية هو أنها لن تعمل علناً  على تخريب الإضراب. وبالنظر إلى العداء المرير لقيادة النقابات العمالية لأي شيء يهدد بتطرف العلاقات الطبقية ، فمن المشكوك فيه أن الحزب الاشتراكي الديمقراطي قد وضع الكثير من الثقة في هذا التنازل.

كانت هذه الفترة ذروة مسيرة كاوتسكي الثورية الطويلة حين دافع عن لوكسمبورغ ضد الهجمات المريرة من قبل القادة النقابيين، أشارت إليه بمودة وإعجاب باسم 'كارولوس ماغنوس' (كارل العظيم). لكن خيبة الأمل المروعة والمرارة التي شعرت بها لوكسمبورغ نتيجة انجراف كاوتسكي اللاحق إلى اليمين (الذي برره كاوتسكي في المراسلات الخاصة على أنه محاولة لاسترضاء النقابات) لا يمكن فهمها إلا على خلفية علاقتهما الطويلة.

إسهام ريازانوف

تضمنت المختارات وثائق مهمة لكنها غير معروفة كتبها منظرو حزب العمل الإشتراكي الديمقراطي الروسي وفيها وثيقتان كتبهما ديفيد بوريسوفيتش غولدينداخ ، واسمه الحركي ريازانوف. وُلِد في أوديسا عام 1870 ، وأصبح في ما بعد معروفاً كمؤرخ لا يعرف الكلل عمل على أرشيف الإرث الأدبي لماركس و إنجلز. ترأس بعد الثورة البلشفية ، جمعية أرشيف الدولة وساعد في إنشاء الأكاديمية الاشتراكية ومعهد ماركس -إنجلز. سافر إلى أوروبا الغربية ، وتفاوض مع العديد من المسؤولين الاشتراكيين الديمقراطيين ، وحصل على كمية هائلة من الوثائق المتعلقة بماركس و إنجلز.

كان لهذا العالم الماركسي اللامع أيضًا مسيرة مهمة كمنظر ثوري. لقد وقف مثل تروتسكي خارج الفصائل البلشفية والمنشفية. ففي عام 1917 ، كان ، مرة أخرى مثل تروتسكي ، عضواً في منظمة المقاطعات قبل انضمامه إلى الحزب البلشفي في صيف ذلك العام. حظي دور ريازانوف في أعقاب استيلاء البلاشفة على السلطة، الذي حاول فيه إيجاد أرضية مشتركة مع قسم من المناشفة ، باهتمام علمي جاد في كتاب ألكسندر رابينوفيتش 'البلاشفة في السلطة'. لقد جعلت مسيرة ريازانوف الثورية الطويلة، ومعرفته العميقة بالنظرية الماركسية وتاريخ الحركة الاشتراكية ، ومصالحه الثقافية الواسعة هدفاً مبكراً وحتمياً لحملة ستالين لتدمير المثقفين الماركسيين الثوريين في الإتحاد السوفياتي. قُبض على ريازانوف لأول مرة في فبراير 1931 واتُهم بالانتماء إلى 'المركز المنشفي' و 'تدمير الأنشطة على الجبهة التاريخية'. كتب تروتسكي أن ريازانوف 'وقع ضحية صدقه الشخصي'.   [18]بعدها طُرد من الحزب ونفي إلى ساراتوف ، واعتقل ريازانوف مرة أخرى في عام 1937. وفي 21 يناير 1938 ، حُكم عليه بالإعدام من قبل ما يسمى العسكريين و أطلق عليه الرصاص في نفس اليوم.

يعود تاريخ أول وثيقة لريازانوف مدرجة في هذه المختارات إلى الفترة الممتدة من 1902 إلى 1903 ، تحت عنوان 'مشروع برنامج' الإيسكرا 'ومهام الإشتراكيين الديمقراطيينالروس'. ونظراً لطول الوثيقة الأصلية ، التي تضمنت  302 صفحة ، اختار داي وغايدو بشكل قابل للفهم، تقديم مقتطفات تمثل محتواها. إنها وثيقة مثيرة للاهتمام عكست شدة الصراع بين الفصائل، و تنبأت ، في وقت لاحق ، بالإنقسام الذي اندلع في المؤتمر الثاني للحزب الإشتراكي الديمقراطي الروسي  في سبتمبر 1903. علاوة على ذلك ، اشارت الوثيقة بالتأكيد إلى عدم الرضا عن التصور البليخانوفي للطابع البرجوازي بالضرورة لشكل الثورة الروسية القادمة. ومع ذلك ، يعتقد كاتب المقال أن داي وغايدو بالغا في الأمر عبر التأكيد على أن 'نقد ريازانوف لبرنامج إيسكرا كان رائعاً لأنه توقع في كل التفاصيل تقريباً الصراع حول نظرية الثورة الدائمة ...' [19]

هناك بالفعل بعض الصياغات التي حاول ريازانوف من خلالها تحديد مهام الطبقة العاملة بطريقة تتجاوز الخضوع للحكم البرجوازي الذي تصوره بليخانوف في أعقاب الثورة. يعبر ريازانوف أيضًا عن موقف متشكك ، تم تطويره لاحقًا بقوة أكبر في كتابات بارفوس وتروتسكي ، تجاه الاقتراحات بأن الفلاحين قد يلعبون دورا ًهامًا ومستقلًا في النضال الثوري. ومع ذلك ، فإن صياغات ريازانوف حول طبيعة النظام الثوري القادم لا تزال ذات طابع مؤقت إلى حد ما: فقد كتب أن الثورة 'ستحدث بلا شك على أساس علاقات الإنتاج البرجوازية ، وبهذا المعنى ستكون بالتأكيد' برجوازية '...' لكنها ' ستصبح أيضاً ، من البداية إلى النهاية ، بروليتارية بمعنى أن البروليتاريا ستكون عنصرها الرائد وستترك بصمتها الطبقية على الحركة بأكملها '. [20] وأكد في جزء آخر من الوثيقة أن' الجمهورية الديمقراطية هي الشكل الذي سيتطور فيه الصراع الطبقي للبروليتاريا ضد البرجوازية بحرية '. [21] هذه الصيغ تقصر إلى حد كبير عن تلك التي استخدمها لاحقاً تروتسكي ، الذي جادل بأن الطبقة العاملة لن تترك بصماتها على الثورة فحسب ، بل ستستولي أيضًا على سلطة الدولة.

تضمنت  وثيقة ريازانوف في أجزائها الأضعف هجوماً  على كتاب لينين 'ما العمل؟' ، وخاصة على إصرار الأخير على أن الوعي الاشتراكي لا يتطور بشكل عفوي داخل الطبقة العاملة ، ولكن يتم جلبه إلى الطبقة العاملة من الخارج.  كتب ريازانوف: 'الرفيق لينين ذهب أبعد من اللازم' ، وهو ينطلق في جدال قوي ضد هذه الفكرة. يشير تعليق داي وغايدو إلى أنهما متعاطفان إلى حد ما مع موقف ريازانوف. ومع ذلك ، ففي هذه المسألة على وجه التحديد ، اي أن الاشتراكية تدخل إلى الطبقة العاملة من خارج نطاق نضالاتها الاقتصادية العفوية وأنشطتها العملية بدا أن تأثير كاوتسكي على لينين كان أكثر وضوحاً. ففي ما العمل؟ ضمن لينين فقرة مطولة كتبها كاوتسكي ، أوضح فيها الأخير أن 'الوعي الاشتراكي هو شيء يتم إدخاله إلى الصراع الطبقي المؤيد من الخارج وليس شيئاً نشأ فيه تلقائياً. [22] على الرغم من معارضته للإصلاحية ، تقدم وثيقة ريازانوف مواقف تشبه في بعض النواحي النقدية مواقف 'الإقتصاديين' ، حول الهدف الرئيسي لكتاب ما العمل؟ لاحظ داي وغايدو أن مؤرخاً كتب في عام 1970 ، وصف نقد ريازانوف لإيسكرا بأنه 'اقتصاد ثوري'. [23] 

أما وثيقة ريازانوف الثانية ، التي كُتبت بعد ثلاث سنوات تقريباً ، في خضم ثورة 1905 ، تضمنت صيغاً أقرب بكثير إلى تلك التي طورها تروتسكي وبارفوس. وأكد ريازانوف على مركزية 'مسألة الملكية':

بتركيزها كل جهودها على إكمال مهامها ، تقترب [الطبقة العاملة] في نفس الوقت من اللحظة التي لن تكون فيها القضية مشاركة في حكومة مؤقتة ، بل استيلاء الطبقة العاملة على السلطة وتحويل ' الثورة البرجوازية إلى مقدمة مباشرة للثورة الاجتماعية.  [24]

إسهام لينين

في تطور نظرية واستراتيجية الثورة الروسية ، ظهر مفهوم لينين لـ 'دكتاتورية البروليتاريا والفلاحين الديمقراطية' عام 1905 بديلاً رئيسياً للمفهوم الأرثوذكسي لبليخانوف. اختلف منظور لينين عن منظور بليخانوف في ناحيتين أساسيتين ، وكلاهما له آثار سياسية وعملية بعيدة المدى. أولاً ، على الرغم من أن لينين وصف الثورة القادمة بأنها برجوازية ، إلا أنه استبعد إمكانية أن تقود البرجوازية الروسية هذه الثورة ، ناهيك عن أن تصل إلى نتيجة حاسمة. وعلى عكس بليخانوف ، رفض لينين رفضا قاطعًا تحالف سياسي مع الليبراليين البرجوازيين.

علاوة على ذلك ، بالنسبة للينين ، فإن الأهمية التاريخية الجوهرية للثورة 'البرجوازية' لا تكمن في إنشاء مؤسسات برلمانية ديمقراطية ، بل بالأحرى في التدمير الجذري لجميع بقايا العلاقات الإقطاعية في الريف. هذا هو السبب الذي جعل لينين يضع ما يسمى 'بالمسألة الزراعية' في قلب الثورة الديمقراطية. كما أكد تروتسكي في مقالته الرئيسية الأخيرة حول أصول نظرية الثورة الدائمة ،أن لينين قدم  بقوة واتساق أكبر بلا حدود من بليخانوف ، المسألة الزراعية بوصفها المشكلة المركزية للانقلاب الديمقراطي في روسيا.' [25]

من هذا التحليل ظهرت استراتيجية سياسية تختلف اختلافاً جوهرياً عن استراتيجية بليخانوف. إن نجاح الثورة الديمقراطية ، التي استلزمت في الريف مصادرة الأراضي الشاسعة لطبقة ملاك الأراضي القديمة ، لا يمكن أن تتحقق إلا من خلال التعبئة الهائلة لعشرات الملايين من الفلاحين الروس. لم تستطع البرجوازية الروسية ، المعادية لأي شكل من أشكال العمل الجماهيري الموجه ضد الملكية الخاصة ، أن تقضي على علاقات الملكية القائمة في الريف ولا أن تقود انقلاباً ثورياً. ولكن فقط من خلال مثل هذا التعبئة للفلاحين ، الذين شكلوا الأغلبية الساحقة من سكان روسيا ، يمكن الإطاحة بالنظام القيصري.

بالنسبة للينين ، كان توجه بليخانوف نحو البرجوازية الليبرالية يعني هلاك الثورة. كان الفلاحون الحليف الرئيسي للطبقة العاملة في النضال الثوري ضد النظام القيصري و انطلاقاً من هذا التقييم لديناميكيات الثورة الديمقراطية طور لينين تصوره للشكل الجديد لسلطة الدولة الثورية التي من شأنها أن تحل محل الأوتوقراطية القيصرية: الديكتاتورية الديمقراطية للبروليتاريا والفلاحين.

وضع تصور لينين للثورة الديمقراطية الفصيل البلشفي لحزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي (لم يعلن البلاشفة أنفسهم حزبا مستقلاً حتى عام 1912) في عداء سياسي لا يمكن تبريره تجاه البرجوازية وجميع تيارات المناشفة التي ، أصرت بشكل أو بآخر ، على أن الجمهورية البرلمانية البرجوازية الليبرالية كانت النتيجة الشرعية الوحيدة للإطاحة بالقيصر. ومع ذلك ، ميز لينين بوضوح بين الثورتين الديمقراطية والاشتراكية. إن الدكتاتورية الديمقراطية للبروليتاريا والفلاحين كما تصورها لينين ، سوف تتأسس على أساس العلاقات الرأسمالية. وقد كتب لينين في عام 1905 شارحاً موقفه:

لكنها بالطبع ستكون ديكتاتورية ديمقراطية وليست اشتراكية. لن تكون قادرة (بدون سلسلة من المراحل الوسيطة للتطور الثوري) على التأثير على أسس الرأسمالية. في أحسن الأحوال ، قد تؤدي إلى إعادة توزيع جذرية لملكية الأرض لصالح الفلاحين ، وإقامة اتحاد وديمقراطية كاملة ، بما في ذلك تشكيل جمهورية ، والقضاء على جميع السمات القمعية للاستبداد الآسيوي ، ليس في الريف وحسب بل في حياة المصانع ، وأن تضع الأساس لتحسين شامل لظروف العمال ولرفع مستوى معيشتهم ، وأخيراً وليس آخراً ، حمل الحرب الثورية إلى أوروبا. إن مثل هذا الانتصار لن يحول بأي حال من الأحوال ثورتنا البرجوازية إلى ثورة اشتراكية. لن تتخطى الثورة الديمقراطية فوراً حدود العلاقات الاجتماعية والاقتصادية البرجوازية ؛ ومع ذلك ، فإن أهمية هذا الانتصار بالنسبة للتطور المستقبلي لروسيا والعالم بأسره ستكون هائلة.  [26] 

كان برنامج لينين ، كما كتب تروتسكي لاحقاً ، 'يمثل خطوة هائلة إلى الأمام' إلى ما بعد تصور بليخانوف للثورة البرجوازية.   [27]ومع ذلك ، فقد أثار أسئلة نظرية وسياسية كشفت عن الغموض والقيود في صياغة لينين. على وجه الخصوص ، توقع تصور لينين إنشاء شكل دولة جديد وغير مسبوق تتقاسم فيه السلطة طبقتان ، البروليتاريا والفلاحون. كيف ستوزع السلطة بين هاتين الطبقتين؟ علاوة على ذلك ، وكما أدرك لينين بوضوح ، فإن تدمير الملكيات القديمة وإعادة توزيع الأرض لا يعنيان نهاية الملكية الخاصة للأرض بل سيظل الفلاحون ملتزمين بالملكية الخاصة ، وإن كان ذلك على أساس أكثر إنصافاً. ومع ذلك ، فإن الفلاحين سيكونون معاديين لعلاقات الملكية المعادية للملكية الخاصة ، ومعادون لتطلعات البروليتاريا الاجتماعية وتوجهاتها. إن هذا التناقض الأساسي في التوجه الاجتماعي للطبقتين أثار التساؤل حول جدوى دكتاتورية لينين الديمقراطية.

على الرغم من محدودية برنامج لينين ، إلا أنه مثل علامة فارقة في تطور الفكر الثوري الروسي. لذلك ، يشعر معد المحاضرة  بالحيرة إلى حد ما من الموقف غير المدروس والموقف شبه الرافض من قبل داي وغايدو تجاه موقف لينين. في هذه الحالة الفريدة ، يكاد المرء يسمع صرير المحاورات السياسية ، وهذا أضعف مراجعتهما الممتازة بشكل عام للنقاش حول نظرية الثورة الدائمة حيث ذكرا:

كانت مشكلة فكرة لينين عن 'ديكتاتورية البروليتاريا والفلاحين الديمقراطية' واضحة ففي روسيا ، لم يكن هناك حزب بورجوازي صغير ثوري يتعاون معه. اعتقد لينين أن مثل هذا الحزب يجب أن يظهر في نهاية المطاف ، لكن هذا لم يكن أساساً عملياً يمكن أن تستند إليه التكتيكات السياسية.  [28]

يتفاجأ المرء بهذا الحكم. مهما كانت حدود نظرية لينين ، فهي بالتأكيد لم تكن 'واضحة'. لو كانت كذلك ، لما كانت انتقادات تروتسكي لمنظور 'الديكتاتورية الديمقراطية' وتطورها بعد ذلك ، مع نظرية الثورة الدائمة ، ما كانت لتكون بمثابة إنجاز فكري مثير للإعجاب. كذلك ، لا يمكن لوم لينين لأنه ترك الباب مفتوحاً أمام احتمال قيام حزب فلاحي جماهيري في روسيا. إن التطور المستقبلي للحزب الإشتراكي الثوري ، الذي اكتسب قاعدة جماهيرية ، وإن كانت غير مستقرة ، داخل الفلاحين ، أثبت صحة موقف لينين.

وفي نهاية المطاف ، يجب ألا يغيب عن البال أن لينين انتمى إلى جيل نما إلى النضج السياسي في أعقاب كارثة كومونة باريس. كان عدم قدرة عمال باريس على حشد الفلاحين الفرنسيين إلى جانبهم هو العامل الحاسم الذي مكّن النظام البرجوازي في فرساي من تدمير الكومونة في مايو 1871 و لم يكن ذلك إخفاقاً سياسياً سرعان ما يُنسى. فبالنسبة للينين ، فإن مصير الطبقة العاملة في روسيا (وكذلك أي بلد به عدد كبير من السكان العاملين في الزراعة) يعتمد على قدرتها على كسب دعم الفلاحين. إنه لمن المفيد دائماً التفكير في الإطار الزمني التاريخي. لم يفصل كومونة باريس عن ثورة 1905 سوى 34 سنة. كان تدمير الكومونة أقرب لجيل لينين في عام 1905 مقارنة مع سقوط سايغون في مايو 1975 حتى يومنا هذا!

هناك جانب آخر لصياغة لينين للديكتاتورية الديمقراطية ذو أهمية دائمة. كان فهم لينين للطبيعة التناقضية للحركة الفلاحية الثورية  وقبل كل شيء ، هو إصراره على أن تمرد الفلاحين والاستيلاء على الأراضي لا يؤدي بالضرورة إلى تدمير العلاقات  والمنظور الرأسمالي.  تناول لينين قضية من شأنها أن تسبب مراراً وتكراراً ارتباكاً سياسياً داخل اليسار (بين المعجبين ، على سبيل المثال ، بكاسترو وماو وبالحزب الشيوعي الماركسي- الماوي في الهند وحتى بماركوس 'شبه القائد' في المكسيك) ، جادل لينين ضد المفهوم الخاطئ السائد بأن الراديكالية الفلاحية  حتى حين تناضل من أجل توزيع الأراضي على فقراء الريف تكون اشتراكية. أصر لينين على أن تأميم الأرض هو عنصر أساسي للثورة الديمقراطية ، وفي ظل ظروف معينة ، أمر حاسم لتطور الرأسمالية. كتب لينين موضحاً أن تأميم الأرض إجراء ديمقراطي وليس اشتراكي بأن:

عدم فهم هذه الحقيقة يجعل الاشتراكيين الثوريين أيديولوجيين غير واعين للبرجوازية الصغيرة. إن الإصرار على هذه الحقيقة له أهمية كبيرة للاشتراكية الديموقراطية ليس فقط من منظور النظرية ولكن أيضاً من منظور السياسة العملية ، لأنه يتبع ذلك الاستقلال الطبقي الكامل لحزب البروليتاريا وبشكل عام فإن  'الديمقراطية' في الوضع الحالي شرط لا غنى عنه.  [29]

أدت الكوارث العسكرية التي عانت منها روسيا في حربها مع اليابان إلى اندلاع ثورة بشرت بمذبحة عمال سانت بطرسبرغ الذين ساروا محتجين  في 9 يناير 1905 إلى قصر الشتاء. قدم الانفجار الاجتماعي داخل الإمبراطورية الروسية دافعاً قوياً لتطوير النظرية الثورية. والشخصان اللذان قاما بدور مركزي في صياغة نظرية الثورة الدائمة هما بارفوس و تروتسكي.

إسهام بارفوس

بعد خمسة وثمانين عاماً على وفاته في ألمانيا ، مازال بارفوس (1867-1924) شخصية غامضة ، بل وإشكالية إلى حد ما. يتذكره البعض كثيراً بسبب أنشطته التجارية الشائنة خلال الحرب العالمية الأولى ، بعد أن تخلى عن الحركة الثورية ، بشكل يطغى على ذكراه على أساس عمله الرائع بوصفه منظراً ماركسياً خلال السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر والسنوات الأولى من القرن العشرين. لكن لا جدال في أن بارفوس ، المولود في ألكسندر هيلهاند ، لعب دوراً حاسماً في حياة الحركة الثورية في روسيا وألمانيا. لقد لفت انتباه الاشتراكيين الأوروبيين لأول مرة بفضل هجماته على تحريفية إدوارد برنشتاين. ظهرت مقالاته الأولى المعادية لبرنشتاين في الصحافة الاشتراكية الألمانية في يناير 1898 ، حتى قبل دخول لوكسمبورغ ، ناهيك عن كاوتسكي ، في الصراع. لم يكن توقيتها فقط هو ما جعل مقالات بارفوس مهمة حيث عرضت المقالات فهماً رائعاً لاقتصاديات الرأسمالية الألمانية والعالمية مما ترك انطباعاً بأن برنشتاين ما عرف حقاً ما الذي تحدث عنه.

كما اعترف تروتسكي لاحقاً ، فإن أفكاره حول ديناميكية التطور الثوري الروسي قد تأثرت بشدة ببارفوس. وكتب تروتسكي أن بارفوس هو بالتأكيد من 'حوَّل استيلاء البروليتاريا على السلطة من هدف فلكي' نهائي 'إلى مهمة عملية في يومنا هذا.' و فتح في أكتوبر 1905 إمكانيات هائلة أمام الطبقة العاملة.  [30]طرح بارفوس أن مفاهيم 'المهام' المناسبة للثورة انبثقت من حسابات مجردة للتطور 'الموضوعي' لقوى الإنتاج الوطنية ، في حين  تجاهلت الديناميكية التي لا تقل موضوعية عن القوى الطبقية المنفتحة في حالة ثورية ، كانت غير كافية. كما حاجج بارفوس بأن استيلاء الطبقة العاملة على السلطة أصبح ممكناً. لقد رفض حجة المنشفيك القائلة بأن الطبقة العاملة ، القائمة على حساب قدري للموارد الإقتصادية المتاحة ، كانت ملزمة بالوقوف جانباً ومراقبة باحترام البرجوازية وهي تأخذ السلطة بين يديها.و في عرض لامع للتفاعل بين السياسة والإقتصاد ، مهد بارفوس الطريق لصياغة أكثر عدوانية بكثير للاستراتيجية الثورية المؤيدة للثورة:

إذا تم تحديد العلاقات الطبقية من خلال المسار التاريخي للأحداث بطريقة بسيطة ومباشرة ، فلن يكون هناك فائدة في إثارة عقولنا و كل ما علينا فعله هو حساب لحظة الثورة الاجتماعية بنفس الطريقة التي يرسم بها علماء الفلك حركة كوكب ، ومن ثم يمكننا الجلوس والمراقبة. في الواقع ، العلاقة بين الطبقات تؤدي إلى الصراع السياسي قبل كل شيء. علاوة على ذلك ، فإن النتيجة النهائية لذلك الصراع تحددها تطور القوى الطبقية. وتعتمد العملية التاريخية بأكملها ، التي تشمل المراكز ، على العديد من الظروف الاقتصادية والسياسية والثقافية الثانوية ، ولكنها تعتمد قبل كل شيء على الطاقة الثورية والوعي السياسي للمتصارعين وعلى تكتيكاتهم ومهاراتهم في الاستيلاء على السلطة.  [31]

لم يزعم بارفوس أن روسيا كانت ناضجة لتأسيس الاشتراكية. وصرح بشكل قاطع أنه 'بدون ثورة اجتماعية في أوروبا الغربية، من المستحيل حالياً تحقيق الاشتراكية في روسيا'.  [32]لكنه اعتقد أن زخم الصراع الطبقي قد يخلق ظروفاً يمكن فيها للطبقة العاملة الاستيلاء على السلطة. ومن ثم ستستخدم هذه القوة بطريقة تعزز قدر الإمكان مصالح الطبقة العاملة.

لم يحاول بارفوس التنبؤ بالمسار الدقيق للتطور الثوري. ففي رأيه أن السياسة ، تنطوي على تفاعل معقد للقوى والتأثيرات والعوامل التي سمحت بمتغيرات لا حصر لها من التنمية. لقد توقع عملية مطولة من النضال ، حيث كان الإطاحة بالحكم المطلق القيصري يمثل فقط نقطة انطلاق الثورة. حاجج بارفوس:

عبر وضع البروليتاريا في المركز ورئاسة الحركة الثورية للشعب بأسره والمجتمع بأسره ، يجب على الاشتراكية الديموقراطية أن تعدها في نفس الوقت للحرب الأهلية التي ستتبع الإطاحة بالحكم المطلق و للوقت الذي سوف تتعرض للهجوم من قبل الليبرالية الزراعية والبرجوازية ويخونها الراديكاليون السياسيون والديمقراطيون.

يجب أن تفهم الطبقة العاملة أن الثورة وانهيار الاستبداد ليسا نفس الشيء ، وأنه من أجل الاستمرار في الثورة السياسية ، سيكون من الضروري النضال أولاً ضد الاستبداد ثم ضد البرجوازية. [33]

إحتوت مقالة بارفوس الرائعة ، 'ما تم إنجازه في التاسع من يناير' ، على ثروة من الرؤى السياسية ، التي عكست حكمة العصر السياسي القائم ، على الأقل في فهمه لواقع الصراع الطبقي ، على مستوى أعلى بما لا يقارن من مستوانا. ونصح بارفوس بمناقشة المشاكل التي تنشأ أثناء القتال إلى جانب حلفاء مؤقتين وغير ثابتين:

1. لا تطمسوا الخطوط التنظيمية. سيروا بشكل منفصل ، لكن اضربوا في انسجام تام.
2. لا تتردّدوا في مطالبنا السياسية.
3. لا تخفوا خلافات المصالح.
4. راقبوا حلفائنا بنفس الطريقة التي نراقب بها أعدائنا.
5. انتبهوا إلى الاستفادة من الوضع الذي خلقه النضال أكثر من الإهتمام بالحفاظ على حليف. [34]  

في أواخر عام 1905 ، كتب تروتسكي حول ' التاسع من يناير' وهي دراسة  لم تظهر ترجمة إنجليزية كاملة إلا في هذه المختارات. مثل العمل كشفاً حاداً ومدمّراً للتعفن السياسي لممثلي البرجوازية الروسية من الليبراليين . أرّختروتسكي موقفهم الضعيف تجاه النظام القيصري في فترة الأزمة المتصاعدة الناجمة عن الهزائم المدمرة للجيش الروسي في الحرب مع اليابان. وكتب  معبراً عن ازدراء للطريقة التي انخرط بها السياسيون الليبراليون في الحرب:

لم يكن كافياً [لليبراليين] أن ينضموا إلى العمل القذر المتمثل في مذبحة مخزية وأن يحملوا أنفسهم ، أي تحميل الناس، جزءاً من النفقات. لم يكتفوا بتواطؤ سياسي ضمني وتستر مطمئن على عمل القيصرية  كلا ، لقد أعلنوا للجميع تضامنهم الأخلاقي مع المسؤولين عن ارتكاب أعظم الجرائم. ... استجابوا واحداً تلو الآخر لإعلان القيصر  الحرب بتصريحات مخلصة ، مستخدمين الخطاب الرسمي للندوات للتعبير عن حماقتهم السياسية ...

وماذا عن الصحافة الليبرالية؟ هذه الصحافة الليبرالية المثيرة للشفقة ، الغمغمة ، المتذللة ، الكاذبة ، المتراجعة ، الفاسدة والمفسدة! [35]

قد يُغفر للمرء اعتقاده إن تروتسكي الشاب كان يصف الحزب الديمقراطي في الولايات المتحدة ونيويورك تايمز اليوم. لكن منذ أكثر من قرن مضى ، فهم الاشتراكيون جيداً فساد الليبرالية البرجوازية.

إسهام تروتسكي

تتضمن هذه المختارات أعمال الكتاب اللامعين. لكن أعمال تروتسكي الشاب تميزت عن كل الأعمال الأخرى.  فهو قدم وجهة نظر جديدة بصوت مميز وقوي. إن أكثر ما يلفت الانتباه في هذه الكتابات المبكرة هو تصورها الحيوي وتوضيحها لحركة ثورية جماهيرية ناشئة للطبقة العاملة والقوة الأساسية لصراعها على السلطة. بهذا المعنى ، فإن التناقض مع كتابات كاوتسكي صارخ. حتى في أفضل أعمال هذا الأخير ، لما صاغ منظور ثوري ودافع عنه ، فإن تصوير كاوتسكي لصراع القوى الطبقية المتعارضة منفصل ، ويبدو أنه عكس الشكوك الداخلية للكاتب. لقد ترك الاحتمال مفتوحاً ، بطريقة غير مقنعة للغاية ، لأن تكون الطبقة العاملة قادرة ، دون اللجوء إلى العنف ، على تخويف عدوها الطبقي ودفعه إلى الاستسلام! حيث كتب:

يجب أن تمتلك الطبقة الصاعدة أدوات القوة اللازمة تحت تصرفها إذا أرادت نزع ملكية الطبقة الحاكمة القديمة ، لكن ليس من الضروري أن تستخدمها دون قيد أو شرط. ففي ظل ظروف معينة ، يمكن أن يكون الوعي بوجود مثل هذه الأدوات كافياً لحث الطبقة المنحدرة على التوصل إلى اتفاق سلمي مع خصم أصبح متفوقاً بشكل ساحق .  [36]

ينبغي بالطبع ألا يغيب عن بالنا أن كاوتسكي كان مدركاً بشكل جيد العداء الذي كان قائماً داخل أقسام الحزب الاشتراكي الديمقراطي ، وخاصة داخل النقابات العمالية ، تجاه أي اقتراح يؤمن به الحزب الكفاح المسلح من أجل السلطة  ناهيك عن الدعوة إلى هذا. كما أنه لم يكن غافلاً عن أن الصيغ غير الدقيقة ، حتى ولو ظهرت في المجلات النظرية ، يمكن أن تنتهزها الدولة البروسية ذريعة للهجوم على الحزب الاشتراكي الديمقراطي. إن حقيقة وجود أصوات مؤثرة داخل المستويات العليا من الدولة كانت تدعو باستمرار إلى مواجهة دموية مع الاشتراكية الديموقراطية كانت أمراً معروفاً. لكن مع ذلك ، من الواضح أن كاوتسكي لم يكن لديه إجابة واضحة للمشكلة التي لا مفر منها التي واجهت الطبقة العاملة في دولة رأسمالية حديثة وهي أن كيف تتغلب على مقاومة القوات العسكرية الموجودة تحت تصرف الحكومة؟ ففي أحد المقالات ، ذهب كاوتسكي إلى حد اقتراح أنه من غير الممكن هزيمة حكومة مستعدة للدفاع عن نفسها بتعبئة القوة العسكرية. 'إن وعي التفوق العسكري التقني يجعل من الممكن لأي حكومة تمتلك القسوة اللازمة أن تتطلع بهدوء إلى انتفاضة مسلحة شعبية.'[37] 

إن تروتسكي ، كما أشار داي وغايدو ، 'قدم حجة معاكسة تماماً ورأى إن الإضراب الجماهيري سيؤدي بالضرورة إلى نزاع مسلح حين تستجيب الحكومة بأوامر لإسقاط المضربين'.  [38]بينما بالنسبة لكاوتسكي فإن إصدار الأوامر للجنود بإطلاق النار على العمال قد يعني نهاية الثورة ، فمثل هذه الأوامر بالنسبة لتروتسكي يمكن أن تؤدي إلى نهاية دولة الظالمين. كما لاحظ تروتسكي أن الرجعيين يميلون إلى الاعتقاد بأن هزيمة الثورة لا  تتطلب إلا التطبيق الكافي للقوة القمعية. وأشار تروتسكي باقتضاب إلى أن 'الدوق الأكبر فلاديمير' ،

الذي قضى وقته في باريس يدرس ليس فقط بيوت الدعارة ولكن أيضاً التاريخ الإداري العسكري للثورة الكبرى ، خلص إلى أن النظام القديم كان سينقذ في فرنسا لو كانت حكومة لويس قد سحقت كل بذور الثورة ، دون أي تردد أو إحجام. وإذا تمت معالجة أهل باريس بإراقة دماء جريئة ومنظمة على نطاق واسع. في 9 يناير ، أظهر أكثر مدمني الكحول لدينا بالضبط كيف يجب القيام بذلك. ... البنادق والأسلحة والذخائر هم خدم ممتازون للنظام ، لكن يجب وضع الأمور موضع التنفيذ. و لهذا الغرض ، هناك حاجة إلى الناس. وعلى الرغم من تسمية هؤلاء الأشخاص بالجنود ، إلا أنهم يختلفون عن البنادق لأنهم يشعرون ويفكرون ، مما يعني أنهم غير موثوق بهم. إنهم يترددون ، وهم مصابون بتردد قادتهم ، والنتيجة هي الفوضى والذعر في أعلى مراتب البيروقراطية.  [39]

لا تتضمن هذه المجموعة الصياغة النهائية الأولى لنظرية الثورة الدائمة من قبل تروتسكي ، على الرغم من النتائج والتوقعات الشهيرة ، والتي نُشرت في عام 1906. لكن داي وغايدو قدما عدداً من الوثائق التي تطور فيها فكر تروتسكي السياسي ، حول  العصر الحديث، مثل  الانكشاف الحاد للطابع الرجعي لليبرالية الروسية على خلفية تخيله  بأن منطق الصراع الطبقي سيجبر الطبقة العاملة على الاستيلاء على السلطة و يمكن تتبع هذا التطور . شملت هذه الأعمال التحضيرية الحاسمة 'مقدمة لخطاب فرديناند لاسال أمام هيئة المحلفين' ، و 'الديمقراطية الاجتماعية والثورة' ، و 'مقدمة لكتاب كارل ماركس ، كومونة باريس'. يعود تاريخ كل هذه المقالات إلى عام 1905 ، وهو العام الذي أصبح فيه تروتسكي رئيساً لسوفييت سانت بطرسبرغ وبرز كأعظم خطيب وزعيم جماهيري للثورة الروسية الأولى. [40]

تُعد' مقدمة إلى خطاب فرديناند لاسال أمام هيئة المحلفين'  أحد روائع تروتسكي الأولى. لعب لاسال دوراً رئيسياً في ثورة 1848 في ألمانيا ، ممثلاً للجناح اليساري المتطرف للقوى الديمقراطية. وألقي القبض عليه لتحريضه على العصيان ضد بروسيا ، فكتب لاسال خطاباً دفاعاً عن نفسه. لم يتم إلقاء الخطاب في قاعة المحكمة، ولكن تم توزيع آلاف النسخ من النص المكتوب في جميع أنحاء ألمانيا وترك انطباعاً عميقاً. وكما لاحظ داي وغايدو ، فإن تروتسكي 'أعجب بشكل واضح بخطاب لاسال العظيم أمام هيئة المحلفين' ، وقد أثر ذلك بالتأكيد على الشكل الذي اتخذه خطاب تروتسكي الذي لا ينسى لما قدم للمحاكمة في عام 1906 بعد هزيمة ثورة 1905.

استخلص تروتسكي ، في 'مقدمته' ، دروسًا من تجربة ثورة 1848 لإبراز النقطة السياسية الأساسية التي مفادها أن البرجوازية الروسية ، في النضال المعاصر ضد الاستبداد القيصري ، كانت العدو اللدود للطبقة العاملة. لقد تعلمت البرجوازية من أحداث 1789 - 1795 أن الثورة ، مهما كانت حاسمة لتحقيق مصالحها ،زادت من خطرالعواقب غير المقصودة. ومع نجاحها في ترسيخ وضعها الاجتماعي والاقتصادي ، ازدادت إصرارها على مقاومة مطالب الجماهير. في الصراع الذي أعقب ذلك ، ظهرت الطبيعة الخفية سابقاً للمجتمع إلى العلن. في فقرة لا تُنسى ، وصف تروتسكي الحقبة الثورية بأنها 'مدرسة المادية السياسية'.

تُترجم  كل الأعراف الاجتماعية إلى لغة القوة. إنها تمنح التأثير لأولئك الذين يعتمدون على القوة والمتحدون والمنضبطون والمستعدون للتحرك. تدفع هزاتها القوية الجماهير إلى ميدان النضال وتكشف لهم الطبقات الحاكمة - سواء المغادرين أو الوافدين. لهذا السبب بالتحديد ، إنه أمر مرعب بالنسبة للطبقة التي تفقد قوتها والطبقة التي تكتسب القوة. بمجرد أن تدخل الجماهير في هذا الطريق ، فإنها تطور منطقها الخاص وتذهب إلى أبعد من اللازم من وجهة نظر الوافدين البرجوازيين الجدد. كل يوم يأتي بشعارات جديدة ، كل واحد أكثر إشعاعاً من سابقه ، وتنتشر بسرعة كما يدور الدم في جسم الإنسان. إذا قبلت البرجوازية الثورة كنقطة انطلاق لنظام جديد ، فإنها ستحرم نفسها من أي فرصة لالتماس القانون والنظام في مواجهة التعديات الثورية للجماهير. هذا هو السبب في أن التعامل مع الرجعية ، على حساب حقوق الشعب ، هو ضرورة طبقية للبرجوازية الليبرالية.

وينطبق هذا بنفس القدر على موقفها قبل الثورة و خلالها وبعدها.  [41]

في نهاية استعراضه الدقيق لخيانة البرجوازية الألمانية للثورة الديمقراطية عام 1848 ، توصل تروتسكي إلى نتيجة سياسية  بعد نصف قرن ، كان هناك احتمال أقل أن تلعب البرجوازية أي نوع من الدور السياسي التقدمي. علاوة على ذلك ، فإن التطور العالمي للرأسمالية خلال نصف القرن السابق قد جر البرجوازية الروسية إلى نظام عالمي للسيطرة السياسية والاستغلال الاقتصادي. عند هذه النقطة  لفت تروتسكي الانتباه إلى عامل جديد وحاسم في تطور الثورة الروسية:

بفرض نمط اقتصادها الخاص وعلاقاتها الخاصة على جميع البلدان ، حولت الرأسمالية العالم بأسره إلى كائن اقتصادي وسياسي واحد. ومثلما يربط الائتمان الحديث آلاف الشركات ببعضها البعض بخيط غير مرئي ويضفي تنقلًا مذهلاً على رأس المال ، مما يقضي على العديد من الأزمات الصغيرة والجزئية بينما يتسبب في نفس الوقت في حدوث أزمات اقتصادية عامة أكثر خطورة بما لا يقاس ، وبالتالي فإن الأداء الاقتصادي والسياسي الكامل ـ لم تقاوم الرأسمالية ، بتجارتها العالمية ، ونظامها للديون الحكومية الوحشية والتحالفات السياسية الدولية ، التي تجذب كل القوى الرجعية إلى شركة مساهمة عالمية واحدة ، جميع الأزمات السياسية الجزئية فحسب ، بل أعدت أيضاً شروط أزمة اجتماعية ذات أبعاد غير مسبوقة  من خلال استيعاب جميع العمليات المرضية ، وتجاوز جميع الصعوبات ، وتجاهل جميع الأسئلة العميقة المتعلقة بالسياسة المحلية والدولية ، وإخفاء جميع التناقضات ، أجلت البرجوازية الخاتمة بينما كانت تستعد في الوقت نفسه لتصفية جذرية عالمية تنهي تفوقها. لقد تمسكت بكل قوة رجعية دون التشكيك في أصولها...

منذ البداية ، أضفت هذه الحقيقة على الأحداث الجارية طابعاً دولياً فتح آفاقاً مهيبة. إن التحرر السياسي، بقيادة الطبقة العاملة الروسية ، يرفع الطبقة العاملة الروسية إلى مستويات غير مسبوقة تاريخياً ، ويزودها بوسائل وموارد هائلة ، ويجعلها البادئة بتصفية الرأسمالية على مستوى العالم ، وهي عملية أعد لها التاريخ كل الشروط المسبقة الموضوعية.  [42]

تشير هذه الفقرات إلى ظهور تروتسكي كخبير استراتيجي للثورة الاجتماعية العالمية!

فتحت تأثير الإضراب الضخم في أكتوبر1905 وإنشاء سوفييت بطرسبورغ ، كافح أكثر المفكرين الاشتراكيين تقدماً لاكتشاف الصيغة السياسية التي من شأنها التوفيق بين التناقض الصارخ بين التخلف الاقتصادي لروسيا التي كانت ، وفقاً للتفسير التقليدي للماركسية ، غير جاهزة للثورة الاشتراكية والواقع الذي لا يمكن إنكاره بأن الطبقة العاملة كانت القوة الحاسمة في الوضع الثوري المتكشف. إلى أين كانت الثورة تتجه؟ ما الذي يمكن أن تتوقعه الطبقة العاملة؟

نصح بارفوس  بما يلي ،و كتب في نوفمبر 1905 ، 

إن الهدف الثوري المباشر للبروليتاريا الروسية هو تحقيق ذلك النوع من نظام الدولة الذي تتحقق فيه مطالب الديمقراطية العمالية. وتشمل ديمقراطية العمال جميع المطالب الأكثر تطرفاً للديمقراطية البرجوازية ، لكنها تضفي على البعض منها طابعاً خاصاً كما تتضمن مطالب جديدة بروليتارية خالصة.  [43]

وأوضح أن الثورة الروسية 'تخلق صلة خاصة بين الحد الأدنى من برنامج الاشتراكية الديموقراطية وهدفها النهائي'. ثم أضاف بارفوس:

هذا لا يعني ديكتاتورية البروليتاريا ، التي تتمثل مهمتها في تغيير جذري لعلاقات الإنتاج في البلاد ، لكنها ديمقراطية تتجاوز الديمقراطية البرجوازية. لسنا مستعدين بعد في روسيا لتولي مهمة تحويل الثورة البرجوازية إلى ثورة اشتراكية ، لكننا أقل استعداداً لإخضاع أنفسنا للثورة البرجوازية. لن يتعارض هذا مع المنطلقات الأولى لبرنامجنا بأكمله فحسب ، بل إن الصراع الطبقي للبروليتاريا يدفعنا أيضاً إلى الأمام. و مهمتنا هي توسيع حدود الثورة البرجوازية من خلال تضمين مصالح البروليتاريا في داخلها ، ومن خلال خلق ، ضمن الدستور البرجوازي نفسه ، أعظم الفرص الممكنة للاضطراب الاجتماعي الثوري.  [44]

بدا أن حتى بارفوس تراجع أمام المشكلة التي طرحها تخلف التطور الاقتصادي الروسي والديناميكية السياسية للطبقة العاملة.

وبعد شهر ، في مقدمته لخطاب ماركس حول كومونة باريس ، أكد تروتسكي أن هناك حلاً لهذه المشكلة لكن العثور عليه يتطلب فهم أنه لا توجد علاقة رسمية وميكانيكية بين مستوى تطور القوى المنتجة لبلد معين وقدرة الطبقة العاملة على تولي السلطة. كان لابد أن تتضمن حسابات الحزب الثوري عواملاً نقدية أخرى ، مثل 'علاقات الصراع الطبقي ، والوضع الدولي ، وأخيراً ، عدد من العوامل الذاتية التي تشمل التقاليد ، والمبادرة ، والاستعداد للنضال'.   [45]ما النتيجة التي توصلت إليها هذه الرؤية؟ أعلن تروتسكي: 'في بلد متخلف اقتصادياً ، يمكن للبروليتاريا أن تصل إلى السلطة في وقت أقرب مقارنة مع  البلاد الرأسمالية الأكثر تقدماً.' [46] كان من الضروري الخوض في نصف قرن من التطور الاجتماعي والاقتصادي ، وعقود من العمل النظري ، وتجربة الثورة للوصول إلى هذا الاستنتاج.

كان تروتسكي ، في هذه المرحلة ، قد وضع الخطوط العريضة الأساسية لنظريته عن الثورة الدائمة. وفي الواقع، تم إعادة إنتاج مقاطع من 'مقدمة' خطاب لاسال و 'تمهيده' لخطاب ماركس في كومونة باريس في النتائج والآفاق. ومع ذلك ، حتى عندما أعد الكتابة من هذا العمل الحاسم ، واصل تروتسكي البحث فيه عن التشجيع والإلهام في كتابات كاوتسكي.

تحليل كاوتسكي للصراع الطبقي الأمريكي 

من بين أهم الوثائق المدرجة في مختارات داي-غايدو عمل كاوتسكي غير المعروف فعلياً الذي نشره في  فبراير 1906 تحت عنوان، 'العامل الأمريكي'. وقد كتبه رداً على دراسة المجتمع الأمريكي من قبل عالم الاجتماع الألماني فيرنر سومبارت (1863-1941) ، الذي حمل عنواناً مثيراً للاهتمام ، لماذا لا توجد اشتراكية في الولايات المتحدة؟ وكان سؤالاً مهماً. من  أنه كان يجب معالجة المسألة  ، من وجهة نظر سياسية. ماذا كان مستقبل الاشتراكية إذا ظلت غير قادرة على الحصول على دعم جماهيري من  الطبقة العاملة داخل البلد الرأسمالي الأكثر تقدماً؟ علاوة على ذلك ، كانت هناك قضية نظرية حاسمة لا يمكن تجاهلها. كيف يمكن للمرء أن يشرح ، في إطار النظرية الماركسية ، التناقض التالي حيث بدا أنه  في الولايات المتحدة ، الدولة الرأسمالية الأكثر تقدماً ، أن الاشتراكية لا تحرز سوى القليل من التقدم. لكن في روسيا ، وهي البلدان حيث الرأسمالية أقل البلدان تطوراً ، كانت الاشتراكية تتقدم بسرعة فائقة. كيف تم تفسير التناقض؟ كما أثير سؤال آخر. إذا كشفت البلدان المتقدمة ، كما أشار ماركس ، عن 'نمط' التنمية الذي ستكرره البلدان الأقل تقدماً بالضرورة ، فما هي الآثار المترتبة على النمط 'غير الاشتراكي' لتنمية الدولة الأكثر تقدماً وقوة في العالم؟ استخلص سومبارت الاستنتاجات الأكثر تحفظاً ، وقال إن الولايات المتحدة أظهرت لأوروبا مستقبلها.

طرح كاوتسكي اعتراضاً وكتب أن ادعاء سومبارت 'لا يمكن قبوله إلا مع كثير من التحفظ'. كان خطأ عالم الاجتماع هو تجريد الظروف الأمريكية بطريقة أحادية الجانب من مجموعة معقدة من العلاقات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تشكلت على أساس التطور العالمي للرأسمالية. فشل سومبارت في ملاحظة أن نمط التطور الذي كان ماركس متآلفاً معه ، أي نمط تطور إنجلترا ، لم يتم إعادة تشكيله ببساطة في بلدان أخرى. امتلكت إنجلترا في زمن ماركس الصناعة الأكثر تطوراً لكن تقدم الرأسمالية الصناعية ولّد اتجاهات متعارضة لمقاومة البروليتارية وتنظيمها. لذلك شهدت إنجلترا ظهور الشارتية ، ثم لاحقاً النقابات العمالية والتشريع الاجتماعي. لكن هذا التطور ، حيث كان هناك تفاعل بين التطور الرأسمالي والعمل المضاد للطبقة العاملة ، لم يؤسس 'نمطاً' عالمياً.

أوضح كاوتسكي:

توجد اليوم سلسلة كاملة من البلدان التي يسيطر فيها رأس المال على الحياة الاقتصادية برمتها ، لكن لم يطور أي منها جميع جوانب نمط الإنتاج الرأسمالي بنفس الدرجة. هناك ، على وجه الخصوص ، دولتان تواجهان بعضهما البعض على أنهما على طرفي نقيض ، حيث يكون أحد عنصري هذا النمط من الإنتاج قوياً بشكل غير متناسب ، أي أقوى مما ينبغي أن يكون وفقاً لمستوى التطور حيث برزت الرأسمالية بوصفها الطبقة القوية في حين برزت الطبقة العاملة في روسيا. [47]

أي بلد إذن أظهر لألمانيا مستقبلها؟ أجاب كاوتسكي:

الاقتصاد الألماني هو الأقرب إلى الاقتصاد الأمريكي. لكن من ناحية أخرى ، فإن وضعها السياسي أقرب إلى روسيا. وبهذه الطريقة يظهر لنا كلا البلدين مستقبلنا ؛ سيكون له طابع نصف أمريكي ونصف روسي. كلما درسنا روسيا وأمريكا أكثر ، وكلما فهمنا كليهما بشكل أفضل ، كلما أصبحنا قادرين على فهم مستقبلنا بشكل أوضح. سيكون المثال الأمريكي وحده مضللاً مثل الروسي.

إنها بالتأكيد ظاهرة غريبة حيث يجب على البروليتاريا الروسية أن تبين لنا مستقبلنا  في ما يتعلق بتمرد الطبقة العاملة، وليس في مجال تنظيم رأس المال  لأن روسيا ، من بين جميع الدول الكبرى في العالم الرأسمالي ، هي الأكثر تخلفاً. يبدو أن هذا يتناقض مع المفهوم المادي للتاريخ ، الذي بموجبه يشكل التطور الاقتصادي أساس السياسة. لكنه في الواقع يتناقض فقط مع ذلك النوع من المادية التاريخية التي يتهمنا بها خصومنا ونقادنا ، والتي يفهمون بها نموذجاً جاهزاً وليس أسلوب بحث. إنهم يرفضون المفهوم المادي للتاريخ فقط لأنهم غير قادرين على فهمه وتطبيقه بشكل مثمر.  [48]

ليس من الممكن ، دون إضافة جوهرية إلى طول هذه المراجعة ، فحص تفسير كاوتسكي لخصوصية تطور  السياسة الأمريكية. يكفي أن نقول إن كاوتسكي قدم تحليلاً ثاقباً للغاية للبيئة الاقتصادية والاجتماعية التي جعلت من الصعب للغاية على الاشتراكية أن تتقدم في أمريكا كما حدث في أوروبا. ومن بين العوامل التي أشار إليها كانت الطريقة التي أفسدت بها الثروة الهائلة للرأسمالية الأمريكية قسماً كبيراً من المثقفين ، مما جعلها غير مبالية بالاحتياجات السياسية والاجتماعية للطبقة العاملة. ومع ذلك ، خلص كاوتسكي إلى أنه على الرغم من العوائق العديدة ، ستصبح الاشتراكية في نهاية المطاف قوة سياسية جوهرية في الولايات المتحدة.

كان لـ 'العامل الأمريكي'  الذي كتبه كاوتسكي تأثيراً قوياً على تروتسكي ، كما أقر بذلك صراحة في النتائج والتوقعات. وقد أدرج في عمله مقاطع من الفقرات المذكورة أعلاه. لم ينكر تروتسكي أبداً الدين الذي يدين به هو والآخرون من جيله لكاوتسكي. لم يغفر تروتسكي خيانات كاوتسكي اللاحقة ، لكنه رأى أنه لا داعي للتقليل من إنجازاته ، ناهيك عن إنكارها. تذكره تروتسكي كاوتسكي ، وقت وفاته في عام 1938 ، 'بصفته معلمنا السابق الذي كنا ندين له بالكثير في يوم من الأيام ، ولكنه فصل نفسه عن الثورة البروليتارية ، ومن ثم اضطررنا إلى الانفصال عنه'. [49]

إذا كانت مساهمة كاوتسكي الحيوية في صياغة تروتسكي لنظرية الثورة الدائمة بحاجة إلى التأكيد ، فذلك لأن اليسار البرجوازي الصغير المناهض للماركسية قد أهدر الكثير من الحبر لصالح جهوده لتشويه سمعة التراث النظري للاشتراكية ، الذي لعب كاوتسكي في تطوره دوراً رئيسياً. إن شجب كل مجموعة أعمال كاوتسكي ، التي روجت لها مدرسة فرانكفورت وتضخمت من خلال أشكال متنوعة من الراديكالية البرجوازية الصغيرة اليمينية ، ولم توجه إلى نقاط الضعف في الاشتراكية الديموقراطية قبل عام 1914 ، بل ضد أعظم سماتها  وهي القوة حيث سعت وعملت على تثقيف الطبقة العاملة سياسياً وثقافياً. إن دراسة كتابات كاوتسكي ، التي كُتبت قبل أن يستسلم للضغوط السياسية التي جابهتها الاشتراكية الديموقراطية قبل عام 1914 ، ستجعل من الممكن امتلاك فهم أعمق لتطور الفكر الماركسي ، بما في ذلك فكر لينين وتروتسكي. يؤيد كاتب هذه المراجعة تماماً الكلمات التي اختتم بها داي وغايدو مقدمتهما لهذا المجلد الرائع:

ظلت نظرية الثورة الدائمة محل نقاش لعقود ، ليس فقط بين أتباع تروتسكي ونقاده ، ولكن أيضًا بين المؤرخين الأكاديميين. لكن في محكمة التاريخ ، كما فهم تروتسكي جيداً فإن الحكم على كاوتسكي ، يتطلب النزاهة واللياقة وأن يضمن المشاركون فرصة كاملة للتحدث عن أنفسهم. [50]

بين عامي 1903 و 1907 ، خضع الفكر الاجتماعي والسياسي الماركسي لتطور سريع. إن دراسة هذه الوثائق تعني العودة إلى العصر الذي كان فيه الفكر السياسي أعلى بما لا يقاس مما هو عليه اليوم. هذا الاستعراض ، على الرغم من طوله ، لم يقدم سوى لمحة عن الثروات التي يحتفظ بها كتاب شهود الثورة الدائمة. ومن الحتمي أن الوثائق المعقدة والبعيدة المدى مثل تلك المقدمة في هذه المختارات قابلة للتفسيرات المتنوعة. لقد أشرت إلى بعض المجالات التي لا أتفق فيها مع أحكام ريتشارد داي ودانيال غايدو. لكن هذا لا يقلل بأي شكل من الأشكال من تقديري الكبير ، الذي سيشعر به العديد من الاشتراكيين ، لإسهامهم المهم في إحياء الاهتمام بتطوير النظرية الثورية في القرن العشرين.

Footnotes

[1] Leon Trotsky, “The New Course,” The Challenge of the Left Opposition 1923–25 (New York: Pathfinder Press, 1975), p. 113.

[2] Richard B. Day and Daniel Gaido, ed. and trans., Witnesses to Permanent Revolution (Leiden, The Netherlands: Brill Academic Publishers, 2009), p. 3.

[3] Ibid., pp. 9–10.

[4] Karl Marx and Frederick Engels, Collected Works, Volume 10 (London: Lawrence & Wishart, 1978), p. 280.

[5] Ibid., p. 287.

[6] Witnesses to Permanent Revolution, p. 63.

[7] Ibid., p. 181.

[8] Ibid., p. 569.

[9] Ibid.

[10] Ibid., p. 223.

[11] Ibid., p. 541.

[12] Ibid., pp. 642–643.

[13] Ibid., p. 36.

[14] Ibid., p. 376.

[15] Ibid., p. 407.

[16] Ibid., p. 374.

[17] Ibid., p. 375.

[18] Ibid., p. 70.

[19] Ibid.

[20] Ibid., pp. 133–134.

[21] Ibid., pp. 121–122.

[22] Lenin, Collected Works, Volume 5 (Moscow: Foreign Languages Publishing House, 1961), p. 384.

[23] Witnesses to Permanent Revolution, p. 70.

[24] Ibid., p. 473.

[25]Writings of Leon Trotsky 1939–40 (New York: Pathfinder Press, 1973), p. 58. 

[26] Lenin, Collected Works, Volume 9 (Moscow: Progress Publishers, 1972), pp. 56–57.

[27] Writings of Leon Trotsky 1939–40, p. 59.

[28] Witnesses to Permanent Revolution, p. 257.

[29] Lenin, Collected Works, Volume 9, p. 48.

[30]Witnesses to Permanent Revolution, p. 252.

[31] Ibid., p. 261.

[32] Ibid.

[33] Ibid., 267.

[34] Ibid., pp. 267–268.

[35] Ibid., pp. 282–284.

[36] bid., p. 247.

[37] Ibid., p. 236.

[38] Ibid., p. 334.

[39] Ibid., p. 347.

[40] Ibid., p. 411.

[41] Ibid., p. 416.

[42] Ibid., p. 444–445.

[43] Ibid., p. 493.

[44] Ibid.

[45] Ibid., p. 502.

[46] Ibid.

[47] Ibid., pp. 620–621.

[48] Ibid., p. 621.

[49] Ibid., p. 58.

[50] Ibid.