العربية
Perspective

كأس العالم لكرة القدم في قطر: الجغرافيا السياسية والمال وازدواجية المعايير

نُشرت هذه المقالة في الأصل باللغة الإنجليزية في 25 نوفمبر 2022

إن حقيقة أن الرياضة من الدرجة الأولى ، بما في ذلك كرة القدم العالمية ، يهيمن عليها المال الوفير ومصالح النفوذ ليست مفاجأة لأي شخص. لكن مع كأس العالم في قطر ، وصل هذا إلى مرحلة جديدة.

كان منح كأس العالم للدولة الخليجية من قبل الفيفا فضيحة في ذلك الوقت. قطر دولة ليس لها تقليد كروي. يبلغ عدد سكانها 3 ملايين نسمة ، لكن واحد فقط من كل 10 منهم مواطن قطري. جعلت حرارة البلاد التي لا تطاق جدول الصيف المعتاد للبطولة مستحيلا. علاوة على ذلك ، يحكم البلاد طاغية لا يسمح حتى بأشكال بدائية من الديمقراطية.

وكان من الواضح أن مبالغ طائلة تم تداولها وتم ممارسة ضغوط سياسية كبيرة خلف الكواليس لاتخاذ القرار. لكن قطر لم تكن استثنائية في هذا الصدد. إذ طغت الرشوة والفساد على منح كأس العالم لألمانيا (2006) وجنوب إفريقيا (2010) وروسيا (2018) أيضاً

منذ أن منحت قطر تنظيم كأس العالم ، تم إبرام صفقات تجارية ضخمة. وتتوقع الفيفا وحدها عائدات تبلغ 7.5 مليار دولار ، بزيادة قدرها مليار دولار عن كأس العالم الأخيرة في روسيا. استثمرت قطر أكثر من 200 مليار دولار في كأس العالم وفي البنية التحتية منها 8 مليارات دولار في ثمانية ملاعب حديثة ومكيفة ، و 16.5 مليار دولار في 140 فندق بها 155 ألف سرير ، و 36 مليار دولار في مترو جديد ، و 20 مليار دولار في المطارات والموانئ والطرق السريعة.

تم بناء هذه المشاريع من قبل جيش ضخم من العمال من آسيا في ظل ظروف استغلال شبيهة بالعبودية. امتدت نوبات العمل لمدة 12 ساعة وسبعة أيام عمل في الأسبوع في جو شديد الحرارة ، وأماكن إقامة لا توصف ، وأجور لا تحمي من المجاعة، التي غالباً ما حُجبت لأشهر ، ناهيك عن مصادرة جوازات السفر وحظر تغيير الوظائف. فوفقاً لتقرير صادر عن صحيفة الغارديان البريطانية ، فقد توفي 6750 عاملاً من الهند وبنغلاديش ونيبال وسريلانكا وباكستان في قطر في السنوات العشر منذ منح كأس العالم. ووفق تقديرات منظمة العفو الدولية وفاة أكثر من 15000 مواطن أجنبي من جميع الأعمار ماتوا بين عامي 2010 و 2019. وفي 70 بالمئة من هذه الحالات، كان سبب الوفاة غير معروف.

وفي غضون ذلك ، ووفق أقوال ممثل محلي لمنظمة العمل الدولية ، تدفع الحكومة القطرية راتبه ، فقد تحسنت الأوضاع إلى حد ما. يسري الآن حد أدنى قانوني للأجور يبلغ 1000 ريال (230 يورو)  في واحدة من أغنى وأغلى دول العالم!

استفادت الشركات الغربية بشكل كبير من طفرة البناءإذ قامت شركة التخطيط الألمانية Albert Speer und Partner بوضع المخطط الرئيسي لكأس العالم ومسودات ملاعب كرة القدم الثمانية. كان ألبرت سبير ، الذي توفي عام 2017 ، نجل المهندس المعماري لهتلر ووزير الأسلحة. وأدى سبير الأكبر، الذي حوكم في نورمبرج في أعقاب الحرب العالمية الثانية وحُكم عليه بالسجن لمدة 20 عاماً دوراً رئيسياً في التنظيم والتوجيه والاستغلال القاتل لقوة عاملة من العبيد على مستوى أوروبا.

قطر هي أيضا مستثمر مطلوب إذ تمتلك المشيخة العديد من العقارات والفنادق الفخمة في بريطانيا وفرنسا وألمانيا وهي مساهم رئيسي في فولكس فاجن وآر دبليو إي ودويتشه بنك ولاجاردير وفيفندي وفيوليا وتوتال إنرجي وغيرها من الشركات الرائدة. كما اشترت المشيخة نادي باريس سان جيرمان لكرة القدم وجعلته أقوى فريق في فرنسا من خلال الحصول على لاعبين من الطراز العالمي باهظي الثمن مثل ميسي ونيمار ومبابي. كما يحظى بايرن ميونيخ ، البطل الحالي للدوري الألماني ، برعاية قطر.

كما أصبحت قطر منذ فرض العقوبات على الغاز ، والنفط الروسي ،  مصدرًا رئيسياً للغاز المسال. وقد حج المستشار الألماني أولاف شولتز ، ووزير الشؤون الاقتصادية روبرت هابيك ، وغيرهم من السياسيين الدوليين ، إلى الدوحة هذا العام لتأمين صفقات الغاز الطبيعي المسال.

الأهداف الجيوسياسية

بل إن الأهم من المصالح التجارية للقوى الإمبريالية هي الأهداف الجيوسياسية التي تسعى وراءها في قطر. فإن الدولة الصغيرة في وسط منطقة الخليج المتنازع عليها والغنية بالطاقة هي قاعدة سياسية وعسكرية مهمة بالنسبة لتلك المصالح.

تحتفظ الولايات المتحدة هناك بأكبر قاعدة جوية لها في الشرق الأوسط ، التي لعبت دوراً حيوياً في الحروب في أفغانستان والعراق وسوريا وتقع في الجوار المباشر لإيران. كما شاركت قطر في الحرب الليبية ضد معمر القذافي بمقاتلاتها وطائرات النقل و دعمت الجماعات الإرهابية الإسلامية التي أججت الحرب الأهلية في ليبيا واستُخدمت لاحقاً في سوريا ضد نظام الأسد.

إذا استنكر السياسيون الغربيون والإعلام ومسؤولو كرة القدم الآن حالة حقوق الإنسان في قطر ودعوا إلى المساواة في الحقوق بين النساء والمثليين ، فهذا نفاق محض إذ قتلت الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون ما لا يقل عن مليون شخص في الحروب في أفغانستان والعراق وليبيا وسوريا وأجبرت ملايين آخرين على الفرار. وبالمقارنة ، فإن الحكام المستبدين في دول الخليج هم مجرمون صغار.

فيما يتعلق بالقوى الإمبريالية ، لم تكن البطولة في قطر موضع شك. رئيس الفيفا جياني إنفانتينو ، الذي انتقل إلى الدوحة قبل عام وأعلن في بداية المونديال في مؤتمر صحفي غريب أنه يشعر الآن أنه قطري وعربي وأفريقي ومثلي جنسياً ومعوق ورجلعامل مهاجر ، هو فقط التعبير عن هذا الموقف الساخر بصراحة أكبر.

الوضع مختلف مع اشمئزاز العديد من مشجعي كرة القدم ، الذين يشعرون بغضب حقيقي من أن كأس العالم تقام على عظام زملائهم العمال من البلدان الفقيرة. كما أصاب الاستغلال الهمجي لعمال البناء وتراً حساساً لديهم معهم لأنهم بدورهم يواجهون أعباء عمل متزايدة وانخفاض في الأجور. ففي ألمانيا ، بينت عينة تمثيلية في مايو 2021 أن 65 بالمئة من المستجيبين رفضوا مشاركة المنتخب الألماني في كأس العالم.

كيف باع الفيفا كأس العالم بالمزاد لقطر

عُرفت الآن العديد من التفاصيل حول كيفية بيع الفيفا كأس العالم لقطر في عام 2010. وقد أُجبر اثنان وعشرون من المسؤولين الأربعة والعشرين الذين صوتوا في ذلك الوقت لصالح القرار على المغادرة بسبب الفساد ، وانتهى الأمر ببعضهم في السجن. كما تمت الإطاحة بالسياسيين والمدعين العامين ، وحتى سيب بلاتر ، الذي هيمن على الفيفا مثل رجل مافيا من 1998 إلى 2016 ، اضطر إلى ترك منصبه فقط لإفساح المجال لمتآمر آخر ، هو جياني إنفانتينو.

حقيقة أن هذه المؤامرات ظهرت إلى العلن بوصفها نتيجة صراعات ومؤامرات إمبريالية على السلطة.

فعشية مؤتمر الفيفا في  2015 في زيورخ ، ألقت السلطات السويسرية القبض على سبعة مسؤولين من اتحاد كرة القدم في عمل رائع في فندق Baur au Lac الفاخر في زيورخ بتهمة الفساد. لقد تصرفوا نيابة عن القضاء الأمريكي ، الذي فتح تحقيقاً حول دور الفيفا في كأس العالم 2010.

لم يكن التركيز كبيراً على كأس العالم 2022 في قطر ، ولكن على كأس العالم 2018 في روسيا ، التي تم تحديدها في نفس الاجتماع 2010. فبعد أن جلبت الولايات المتحدة نظاماً مناهضاً لروسيا إلى السلطة في أوكرانيا في 2014 وضمت روسيا شبه جزيرة القرم ، كانت الولايات المتحدة مصممة على منع إقامة البطولة في روسيا. لقد فشلت في ذلك ، لكن التحقيقات أدت إلى حدوث انهيار جليدي كان من الصعب السيطرة عليه.

لا يزال لدى الولايات المتحدة حسابات يتعين تسويتها في حالة قطر. فبعد كل شيء ، تقدمت بنفسها لتنظيم  كأس العالم 2022 وأرسلت وفداً رفيع المستوى - بقيادة الرئيس السابق بيل كلينتون والممثل مورغان فريمان إلى زيورخ. وبحسب شهود عيان ، ألقى كلينتون منافض السجائر عندما سمع نتيجة التصويت.

كان العامل الحاسم في تفضيل قطر، بالإضافة إلى شراء أصوات ثلاثة مندوبين من أمريكا الجنوبية، هو الفرنسي ميشيل بلاتيني ومندوبان آخران أثر عليهما بلاتيني. كان نجم كرة القدم السابق ، في ذلك الوقت ، رئيساً لاتحاد كرة القدم الأوروبي ، وكان يُنظر إليه على أنه خليفة محتمل لبلاتر في الفيفا. لكن قبل أيام قليلة من تصويت الفيفا، التقى بلاتيني بالرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي وأمير قطر ، تميم آل ثاني ، الذي يبدو أنه 'أقنعه' بالتصويت لقطر.

ويُزعم أن بلاتر مثل مصالح الولايات المتحدة في ذلك الوقت. لكن هذا لم ينقذه ، لأنه استمر في دعم تنظيم كأس العالم 2018 في روسيا. ويقال إن إنفانتينو حافظ على اتصالات وثيقة مع نظام العدالة الأمريكي وأدلى بشهادته بعد خمسة أشهر من المداهمة في زيورخ كشاهد أمام هيئة محلفين كبرى في نيويورك حققت مع الفيفا. كما أجرى اتصالات شخصية مع المدعي الفيدرالي مايكل لاوبر ، كبير المدعين العامين في سويسرا.

لكن تم ،بعد يومين من الغارة في زيورخ ، انتخاب بلاتر رئيساً للفيفا لولاية أخرى ، لكنه اضطر إلى الاستقالة بعد ثلاثة أيام بسبب ضغوط من الولايات المتحدة. وفي الأشهر الثمانية التي سبقت انتخاب خليفته ، أزاح القضاء السويسري أيضاً خليفته الواعد ، بلاتيني.

وفي حين أسقط مكتب المدعي العام الفيدرالي معظم التحقيقات الجنائية الـ 25 ، اتهم بلاتر بدفع مليوني دولار 'أتعاب استشارية' لبلاتيني. وعلى الرغم من تبرئته لاحقاً من قبل المحكمة ، إلا أن لجنة الأخلاقيات في الفيفا فرضت حظراً دائماً على بلاتر وبلاتيني ، مما مهد الطريق لإنفانتينو ، الذي تم انتخابه بدعم من الاتحاد الأمريكي. كما فقد المدعي العام السويسري لاوبر وظيفته في وقت لاحق لأنه التقى بإنفانتينو سراً عدة مرات بعد انتخابه بينما كان لا يزال يحقق معه.

وما أن تولى منصبه ، حتى أوقف إنفانتينو التحقيق داخل الفيفا وعلق عمل لجنة الأخلاقيات. لقد أخذ الأمور إلى أبعد من سلفه بلاتر ، بما في ذلك محاولة الاستعانة بمصادر خارجية لجميع حقوق الفيفا في كونسورتيوم بقيادة المملكة العربية السعودية.

كما تضاءلت الحماسة الاستقصائية للقضاء الأمريكي بعد أن لم يعد من الممكن منع كأس العالم في روسيا ، ومنح الفيفا كأس العالم 2026 لأمريكا الشمالية.

أما لوريتا لينش ، المدعية العامة في إدارة أوباما ، التي بدأت في عام 2015 التحقيق ضد الفيفا ، فهي الآن في مرتبات الفيفا وتغني ترانيم الثناء لإنفانتينو. وانضمت في عام 2019 ، إلى مكتب المحاماة Paul Weiss ، الذي تولى تمثيل اتحاد كرة القدم في فضيحة فيفاغيت من مكتب المحاماة كين إيمانويل .

التحالفاتالإمبريالية

لا شيء  وقف الآن في طريق مونديال قطر الذي سيقام في الدوحة. فهو لا يعد بأعمال تجارية رائعة فحسب ، بل يعمل أيضاً كمنصة للولايات المتحدة والقوى الأوروبية لتشكيل تحالفات جديدة ضد روسيا والصين. ومن خلال القيام بذلك ، فهم لا يغازلون قطر فحسب ، بل كل الممالك الخليجية ، وخاصة المملكة العربية السعودية ، التي كانت حتى الآن مترددة في تعويض نقص الغاز والنفط الروسي من خلال زيادة حجم الإنتاج واعتماد مسار المواجهة مع الصين.

ففي يوليو / تموز ، كان الرئيس جو بايدن أول رئيس غربي يزور الحاكم السعودي محمد بن سلمان منذ اغتيال الصحفي جمال خاشقجي. و في المباراة الافتتاحية لكأس العالم ، جلس سلمان بجوار إنفانتينو وأمير قطر كضيف شرف. مع الإشارة إلى أنه بين عامي 2017 و 2021 ، كانت المملكة العربية السعودية وقطر على حافة الحرب.

يتم الآن التقليل من شأن الغضب بشأن الاستغلال القاتل للعمال الآسيويين. وبدلاً من ذلك ، حولت وسائل الإعلام اهتمامها بشكل شبه حصري إلى حقوق النساء والمثليين. وتقتصر التقارير 'الناقدة' على مسألة ما إذا كان سيتم السماح لقادة الفريق بارتداء شارة 'One Love' أو شارات قوس قزح مختلفة للتعبير عن معارضتهم لرهاب المثلية. حتى هذه اللفتة الرمزية البحتة أثبتت الكثير ، حيث أذعنت الاتحادات الوطنية لكرة القدم للحظر الذي فرضه الفيفا ، الذي لا يريد أن يعرقل علاقاته التجارية والسياسية المربحة مع طغاة منطقة الخليج.

لا يوجد أي لبس  في ازدواج إذ يتم التذرع بـ 'حقوق الإنسان' لما يتعلق الأمر بتبرير الحروب الإمبريالية الهمجية، ضد العراق وليبيا وإيران وروسيا والصين ، إلخ. في حين يتم تجاهلها حين يتعلق الأمر بانتهاكات الإمبرياليين لحقوق الإنسان أو تلك التي يرتكبها الحلفاء الديكتاتوريون.

وتُعد كرة القدم وسيلة لتحقيق غاية. إن تعفن الرأسمالية ، الذي يخلق عدم المساواة الاجتماعية والحرب والفاشية والتدهور البيئي في كل مكان ، يطال جميع مجالات المجتمع  بما في ذلك الثقافة والرياضة. أما التقدم الثقافي والرياضة الحقيقية ، التي لا تخضع للتجارة ، فممكنة فقط في إطار النضال من أجل الاشتراكية ، والدعوة إلى مجتمع يضع المصلحة العامة فوق مصالح الربح ويتغلب على الحدود الوطنية.

Loading