العربية

كان كل هذا خطأ إنجلز: مراجعة لكتاب ماركس توم روكمور " ماركس ما بعد الماركسية"

نشرت هذه المقالة لأول مرة باللغة الإنجليزية على موقع العالم الاشتراكي العالمي في 2 مايو 2006

بدأ توم روكمور ، أستاذ الفلسفة في جامعة دوكين في بنسلفانيا ، كتابه ماركسبعدالماركسية: فلسفةكارلماركس ، بالبيان التالي:

من الواضح ، أو على الأقل يجب أن يكون من الواضح  ، أن الماركسية ، كنهج سياسي ، قد فشلت  بوصفها بديل تاريخي للرأسمالية الليبرالية. بعد الانهيار السريع للكتلة السوفيتية في عام 1989، وتفكك الاتحاد السوفيتي في عام 1991 ، تلاشى التناقض بين الماركسية الشمولية والرأسمالية الليبرالية، الذي كان له تأثير رئيسي في معظم القرن العشرين. نتيجة لذلك ، دخل العالم الصناعي الحديث في رهان باسكال لا إرادي قائم على مبادئ الاقتصاد الليبرالي والديمقراطية الليبرالية. ففي وقت كتابة هذا التقرير، لم يكن لليبرالية الاقتصادية الحديثة ، حرفياً ، منافساً حقيقياً في العالم الصناعي.[1]

إن إعلان روكمور عن موت 'الماركسية السياسية' هو نموذج من النظرة السائدة في الأوساط الأكاديمية بمعنى  أن نهاية الاتحاد السوفيتي كانت نهاية الماركسية. ولكن ما هو أساس هذا التأكيد؟ لا شيء أكثر من فرضية أن سياسات البيروقراطية السوفيتية القديمة مثلت الماركسية. تقول هذه الفرضية عن النظرة الاجتماعية والسياسية للأخوة الأساتذة أكثر بكثير مما تقوله عن الماركسية. فعلى أي أساس أسس الأكاديميون التكافؤ بين السياسة القومية الرجعية للكرملين والنظرة العلمية العالمية للماركسية؟ بشكل عام ، هم تجاهلوا ببساطة هذا السؤال تماماً. وهم ينظرون من ارتفاعاتهم العالية إلى النضالات السياسية الحقيقية التي خاضها الماركسيون الثوريون على مدى عقود عديدة ضد الأوليغارشية في الكرملين على أنها مجرد 'صراعات تكتلية' ، لا يملك الأكاديميون الملتزمون وقتاً لها. كان يكفيهم الاعتراف بأن سلطة بيروقراطية الكرملين كانت ، على الأقل حتى عام 1991 ، حقيقية. بعبارة أخرى ، كانت البيروقراطية تسيطر على دولة قوية ، ولديها أيضاً القدرة على توزيع رعاية كبيرة  تم استخدام بعضها لتمويل الندوات الدولية التي سعد  الأكاديميون دائماً بحضورها.

إذا تم تعريف الماركسية بشكل صحيح على أنها الأساس النظري للبرنامج والممارسة الاشتراكية الثورية ، فإن الماركسية لم تلعب أي دور في سياسات النظام السوفييتي منذ أواخر العقد الثاني من القرن الماضي  أي منذ الطرد الرسمي لليون تروتسكي وأنصاره في المعارضة اليسارية من الحزب الشيوعي السوفيتي. إن رفض الكرملين للأصول الماركسية للنظام السوفيتي كان مغموساً بالدم خلال العقد الثالث من القرن الماضي  نتيجة حملة الإبادة الجماعية السياسية التي وجهها ضد جميع بقايا المثقفين الماركسيين والثوريين والطبقة العاملة داخل الاتحاد السوفياتي. قادت محاكمات موسكو وعمليات التطهير المرتبطة بها ، التي أسفرت عن مقتل مئات الآلاف من الاشتراكيين الثوريين ، برنامج الثورة المضادة الدولية التي قادها ستالين ورفاقه في الكرملين.

في وقت مبكر من عام 1933 ، في أعقاب الخيانة الستالينية للطبقة العاملة الألمانية التي مكنت هتلر من الاستيلاء على السلطة ، دعا تروتسكي إلى الإطاحة بنظام بيروقراطية الكرملين من خلال ثورة سياسية. لم تكن قضية تروتسكي قضية انتقام ، بل كانت قضية الحفاظ على الاتحاد السوفيتي. وحذر مراراً وتكراراً من أنه ما لم تتم الإطاحة بتلك السلطة من قبل الطبقة العاملة ، فإن سياسات النظام الستاليني ستؤدي إلى انهيار الاتحاد السوفيتي. إن إصرار تروتسكي على أن الستالينية كانت أزمة نظام ، وأن البرنامج القومي لبيروقراطية الكرملين كان مفلساً اقتصادياً وسياسياً ، وأن السياسات الاقتصادية الذاتية للبيروقراطية لا تستطيع ، على المدى الطويل ، حماية الاتحاد السوفيتي من ضغوط العالم حيث  تهيمن الرأسمالية على الاقتصاد، وأن مصير الاتحاد السوفييتي يعتمد على انتصار الثورة الاشتراكية في الدول الرأسمالية المتقدمة في أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية ، كانت تلك هي مكونات أساسية للبرنامج الماركسي للأممية الرابعة.

لقد أثبت انهيار الاتحاد السوفيتي في عام 1991 تبرئة ليس تروتسكي وحسب ولكن أيضاً الماركسية كعلم للمنظور السياسي. كان من المناسب للباحثين الذين يزعمون أنهم متخصصون في العلوم الاجتماعية  الذين ، في معظمهم ، لم يتخيلوا أن الاتحاد السوفيتي يمكن أن يختفي بين عشية وضحاها ، أن يعترفوا بأن التحليل الماركسي الذي أيدته الحركة التروتسكية ثبت أنه بعيد النظر بشكل غير عادي.

لم يتم العثور على مظاهر التواضع الفكري هذه. أدى زوال الاتحاد السوفياتي إلى اندلاع المنشورات التي أعلنت موت الماركسية. و تقع هذه الأعمال في فئتين رئيسيتين، في البداية توجد منتجات المدافعين الأيديولوجيين عن الرأسمالية من اليمين السياسي (مثل فوكوياما وبايبس) ، التي رأت أن  نهاية الاتحاد السوفياتي أثبتت ببساطة استحالة وجود أي بديل للنظام البرجوازي القائم. أما في الفئة  الثانية ، فنجد مجموعة واسعة من الأعمال من الأكاديميين اليساريين ، الذين ما زالوا يحملون الاحتمال الغامض للتغيير الاجتماعي في مرحلة ما في المستقبل البعيد ، لكنهم يصرون على أنه لن تكون الماركسية هي التي توفر الجوهر النظري لأي تحويل اجتماعي في المستقبل.

بحث الأكاديميين عن بديل للماركسية

ما هو إذن بديل الماركسية؟ ناقش الكثير  من الأدبيات الأكاديمية الجديدة  فكرة إحياء أشكال مختلفة من الفلسفة والسياسة السابقة للماركسية. ادعت هذه الكتابات  أن ظهور الدكتور ماركس الشاب في أوائل العقد الرابع من القرن التاسع عشر أجهض تطور الفلسفات اليسارية التقدمية البديلة والحركات الاجتماعية منذ أن تطور عمل ماركس على أساس النقد المهلك لهيجل ، ويجب إصلاح الضرر الذي أحدثه هجوم ماركس. طرح هؤلاء الكتاب، أنه  بعد أن وقف ماركس على قدميه ، أنه من الضروري الآن قلب الفيلسوف الأيديولوجي القديم رأساً على عقب. ورأوا أن  عمل هيجل وفر أرضية كافية للتطوير ، في سياق معاصر ، للنظرية والممارسة الاجتماعية التقدمية. وبعض الأعمال التي تتبنى هذا  معادية بشكل صريح لماركس. في حين اقترح آخرون أن ماركس إما أضاف القليل لهيجل أو بالغ في أصالته ؛ ولا يزال آخرون يطرحون قضية اندماج الهيغلية والماركسية ، بشكل عام على حساب الأخيرة.

كتب البروفيسور إيرول هاريس في كتابه روحهيجل أنه 'ليس هيجل هو الذي وقف على رأسه ، بل ماركس وإنجلز ، هما من قطعا الرأس ، ثم  تخيلا إن الجذع المقطوع للديالكتيك لا يزال قادراً على الحياة والحركة. '[2] وأضاف:' لا أحد يرغب في أن يشير إلى أن وثائق ماركس نفسها كانت ساخرة ، لكن انتقاداته لهيجل كانت غالباً غير عادية ومحدودة الأفق ، على أساس أنها كانت بسبب سوء فهم فادح لـ 'مثالية هيجل'.[3]

في فلسفةالحريةلهيجل ، طرح البروفيسور بول فرانكو بأنه لدى هيجل ، وليس لدى ماركس ، سيتم العثور على إجابات لمشاكل العالم المعاصر:

على مدى الثلاثين عاماً الماضية أو قرابة ذلك ، كان هناك إحياء هائل للاهتمام بفلسفة هيجل الاجتماعية والسياسية. كان ذلك في البداية بدافع كبير من البحث عن أصول مشروع ماركس ، ثم بدأ إحياء الاهتمام هذا بالتركيز على هيجل كمفكر في حد ذاته ، ومفكر ربما يقدم شيئاَ أكثر عمقاً من ماركس.[4] 

أما بالنسبة للأخير ، فإن فرانكو أشار إلى ماركس على أنه 'مريد أقل تميزاً من هيجل'. [5]  

وقد كتب الأكاديمي الكندي ، ديفيد ماكجريجور ، عدة كتب مكرسة لتأسيس الهيغلية بوصفها قاعدة نظرية رئيسية يجب أن تستند إليها المشاريع الديمقراطية والتقدمية الاجتماعية. وأكد ماكجريجور ذلك في المثلالشيوعيعندهيجلوماركس حيث:  

أدى سوء تفسير ماركس للفكرة الهيغلية إلى تعارضه مع نظرية هيجل عن الدولة وربما منعه من التعامل بشكل كامل مع الواقع المتناقض للديمقراطية الليبرالية الذي واجهه أتباعه في الأيام الأخيرة (الذين لديهم الكثير ليتعلموه من هيجل). وأشار هذا الكتاب إلى فهم للدولة الديمقراطية الليبرالية الذي يغضب نقد ماركس برؤى نظرية هيجل السياسية. [6]

قال ماكغريغور بصراحة أن هدفه هو 'إنقاذ فكر هيجل من التفسير الذي فرضه عليه ماركس. سأجادل ضد ادعاء ماركس بأن الديالكتيك الهيغلي 'يجب أن ينقلب ، من أجل اكتشاف النواة العقلانية داخل الغلاف الصوفي.'[7]

وفي كتابه الأخيرهيجلوماركسوالدولةالإنجليزية ، وسع ماكغريغور انتقاداته لماركس ، متهماً إياه بأنه

أساء التعامل مع عنصر رئيسي من الإرث الهيغلي إذ استبدل مفهوم هيجل للملكية الخاصة ، الذي تضمن حق العامل في ناتج العمل ، بمفهوم فائض القيمة ونفي الملكية الخاصة في ظل الشيوعية. وهذا يعني أن مجتمع ماركس المثالي لا يفتقر إلى الدولة فحسب ، بل يفتقر أيضاً إلى معظم مؤسسات  المجتمع المدني المطلوبة لضمان الحرية الشخصية ومنع الحكم التعسفي من قبل النخبة المهيمنة. [8]

في عمل آخر، أظهر هيجلوماركسبعدسقوطالشيوعية ، الجوهر الاجتماعي والسياسي لنقد ماكغريغور للمفهوم الماركسي الراسخ للعلاقة بين هيجل وماركس بشكل أكثر وضوحاً: 

يشكل مفهوم الملكية الخاصة الجزء المثير للجدل العلاقة بين هيجل وماركس. ... سعى هيجل إلى الحفاظ على مؤسسة الملكية الخاصة في حين حث ماركس على الإطاحة بها. ... أنا أزعم أن هيجل كان سيوافق على نقد ماركس للملكية الرأسمالية. ومع ذلك ، على عكس هيجل ، فشل ماركس في تحقيق  الجانب الإيجابي للحقوق الخاصة. بدلا من ذلك ، أوصى بإلغاء الملكية الخاصة  لصالح الملكية المشتركة لوسائل الإنتاج. [9]

بالنسبة لماكغريغور ، توفر نظرية هيجل السياسية الدافع الفكري لبديل قابل للتطبيق للتطلعات الاشتراكية الثورية لماركس ، أي إحياء دولة الرفاه الاجتماعي الليبرالية، حيث يتم توجيه نظام سوق اجتماعي انتقائي من قبل أصحاب تفكير رفيع من البيروقراطية العامة.

جادل البروفيسور وارن بريكمان ،ماركس،والهيغليينالشباب،وأصولالنظريةالاجتماعيةالراديكالية على نفس المنوال. وأكد أن سقوط الاتحاد السوفياتي والأنظمة المرتبطة به في أوروبا الشرقية أدى إلى تشويه سمعة المنظرين الاجتماعيين الأكاديميين لمعارضة ماركس الصارمة للرأسمالية و 'المجتمع المدني' البرجوازي. كتب بريكمان:

أحد المجالات الرئيسية للاتفاق هو أن رفض كارل ماركس التام لمفهوم المجتمع المدني غير كافٍ لمشروع توسيع الحياة الديمقراطية داخل المجتمعات المعقدة. هنا ، الإجماع هو الجديد وليس الفكرةفي حد ذاتها . لأن أوجه القصور في نقد ماركس للمجتمع المدني معترف بها الآن علانية حتى من قبل أولئك الذين ما زالوا متعاطفين مع بعض مفاهيم الاشتراكية ، أو يحتفظون بعناصر من النقد الماركسي للرأسمالية ، أو على الأقل ، كما في حالة جاك دريدا ، 'يستلهمون من روح معينة من الماركسية. [10]

لاحظ بريكمان بدوره ذلك ورأى: 

إذا كان الجدل الحالي يعتبر ضرورة تجاوز الماركسية أمراً مفروغاً منه ، فإن إحدى تحركاته المميزة كانت البحث وراء ماركس سعياً خلف إلهام وتوجيه نظري. هذا الاهتمام لتأسيس ما بعد الماركسية على النظرية الاجتماعية السابقة  للماركسية عزز بشكل كبير قيمة وأهمية هيجل ، المفكر الرئيسي الذي ادعى ماركس الشاب أنه تغلب عليه. [11]

لو لم يكن هناك شكوك سياسية وفكرية ، لكان من المؤكد أن إحياء الاهتمام بهيجل تطور  مرحب به. ومع ذلك ، فإن محاولات تطوير النظرية الاجتماعية والسياسية على أساس هيجل ، أو أي شخصية رئيسية أخرى في عالم ما قبل عام 1840 ضمنة المثالية الكلاسيكية الألمانية ، دون الإشارة إلى  النقد الفكري اللاحق تحريف التطوير الذي قام به ماركس و إنجلز وكان الأساس الذي قامت عليه أعمالهما على المستوى التاريخي انطلاقاً من التحولات الاجتماعية- الاقتصادية الضخمة في أوروبا وكذلك تطور العلم النقدي الذي تلا موت هيغل عام 1831يمثل في الواقع خطوة واسعة إلى الوراء لا يمكن أن تخدم إلا أهداف سياسية رجعية.

روكمور يلوم إنجلز

مثل الأعمال المذكورة أعلاه ، اقترح كتاب روكمور اكتشاف أجندة جديدة للتغيير الاجتماعي الراديكالي من خلال إلغاء التأثير النظري للماركسية. إن النهج الذي اتبعه يختلف إلى حد ما عن أعمال الآخرين. ففحين اقترح آخرون تحرير هيجل من قبضة ماركس ، زعم روكمور أن ماركس هو من يجب أن يتحرر من ارتباكه الأيديولوجي داخل الماركسية! ماركس الحقيقي ، كما قال روكمور ، كان مثالياً هيغلياً مخلصاً. جادل روكمور بأن واقع أن  ماركس ُفٌهم عالمياً تقريباً على أنه مادي ، هو نتاج تزوير وتزوير بشع لم يرتكبه سوى فريدريك إنجلز ، وهو فلسفي بسيط افتقر إلى التدريب الجامعي الضروري للعمل النظري الجاد وألغى كل التفاصيل الدقيقة الهيغلية الموجودة في تفكير ماركس الحقيقي وخلقت البشاعة الأيديولوجية المعروفة باسم الماركسية!

كتب روكمور:

تحولت الماركسية ، المشتقة من إنجلز ، إلى تفسيرها لعلاقة ماركس بهيجل ، التي بدورها حددت وجهة نظر ماركس على أنه خلف هيجل وراءه. أعتقد أن وجهة النظر الماركسية لماركس غير دقيقة إلى حد كبير ، وأنها تعارض وجهة نظر أفضل لموقف ماركس ، بما في ذلك مساهمته الفلسفية. سأحاجج بأنه من أجل 'استعادة' ماركس ، نحتاج إلى تحريره قدر الإمكان من الماركسية ، وبالتالي من إنجلز ، الماركسي الأول [12]

روكمور ليس أول من طرح وجود خلافات بين إنجلز وماركس. ففي أوقات مختلفة ، تم تقديم هذا من قبل كتّاب متنوعين مثل ستانيسواف برزوزوفسكي ، جورج لوكاش ، لوسيو كوليتي ، جان هيبوليت ، جورج ليشثيم ، ليسزيك كولاكوفسكي ، وممثلي مدرسة فرانكفورت وعدد لا يحصى من ما بعد الحداثيين. إن حقيقة أن إنجلز عاش بعد ماركس اثنتي عشرة سنة كانت كافية لإثارة الإدعاءات بأن الناجي استغل منصبه منفذاً لملكية ماركس الأدبية ليحل آرائه الخاصة  محل آراء شريكه الراحل. إن الاختلافات المزعومة بين وجهات نظر ماركس وإنجلز باتت الآن تتمتع بمكانة أسطورية. لا يمكن لأي من الادعاءات التي قدمها الكتاب المذكورون أعلاه أن تصمد أمام التحليل الدقيق  حيث قام لوكاش لاحقاً بمراجعة موقفه بشأن هذه المسألة.

أطروحة روكمور ليست أصيلة و لا يتميز عمله إلا بضعفه الاستثنائي وخيانة الأمانة الفكرية. وبهذا المعنى ، فإنها حملت بصمات زمانها. إن لهجة السخرية التي سادت الكتاب بأكمله تجد تعبيراً مميزاً عنها بالطريقة التي زعم روكمور أنها 'تجيب' على أولئك الذين قد يفترضون أن ماركس وإنجلز ، على أساس تعاونهما مدى الحياة، تشاركا في نظرة فلسفية ونظرية مشتركة.

كتب روكمور:

أحد الأسباب الرئيسية للاعتقاد بأن ماركس وإنجلز هما المؤلفان المشتركان لمذهب واحد مشترك يكمن في الارتباط الوثيق بين الأول والأخير. هذا يشبه إلى حد ما القول إن الأشخاص الذين يقضون وقتاً سوياً يجب أن يفكروا بالطريقة نفسها. [13]

'تسكعا معاً'؟ قد يكون هذا وصفاً عادلاً لما فعله البروفيسور روكمور مع زملائه في قسم الفلسفة بجامعة دوكين. إنها بالكاد طريقة مناسبة لوصف العلاقة بين ماركس وإنجلز. امتد تعاونهما الفكري والسياسي الحميم إلى تسعة وثلاثين عاماً ، من عام 1844 حتى وفاة ماركس في عام 1883. خلال ذلك الوقت ، حافظا على اتصال مباشر مع بعضهما البعض ، إما من خلال المراسلات المكتوبة أو الاجتماعات الشخصية ، على أساس يومي تقريباً. وتتضمن الطبعة المعاصرة من أعمالماركس-إنجلزالمجمعة عشر مجلدات (يحتوي كل منها على ما بين 500 و 600 صفحة) من المراسلات. هذه الرسائل ، التي تسمح للقارئ بمتابعة التطور الفكري والتفاعل لهذين الرجلين الاستثنائيين على مدى أربعة عقود ، تشهد على درجة من التضامن الفلسفي ، والقرابة الأخلاقية ، والصداقة الشخصية التي يصعب على المرء أن يجد لها مثيلاً في التاريخ. و هناك سجل وثائقي حول الخلافات بينهما سواء حول الأمور النظرية أو السياسية أو الشخصية.

بصرف النظر عن تأليفهما المشترك للأعمال الفلسفية التكوينية النقدية للماركسية ، على وجه الخصوص ، كتاب الأيديولوجيةالألمانية ، التي مثلت أول إيضاح تفصيلي للمفهوم المادي للتاريخ. فإن  ماركس قدم وصفاً مكتوباً كاملاً لدور إنجلز في بلورة رؤيتهما النظرية المشتركة للعالم. لقد تحطمت محاولة روكمور لتصوير إنجلز على أنه المناهض الشرير للهيغلية ، الذي غطى ولاء ماركس الدائم للمثالية الألمانية ، بما قاله ماركس نفسه حول هذا الموضوع بالذات في مقدمة عام 1859 لنقدالاقتصادالسياسي:

وصل فريدريك إنجلز ، الذي حافظت معه على تبادل مستمر للأفكار عن طريق المراسلة منذ نشر مقالته الرائعة حول نقد الفئات الاقتصادية (المطبوعة في مجلة السجل السنويالألمانيالفرنسي)  ، عن طريق آخر (قارن حالةالعمل - الفصلالدراسيفيإنجلترا) إلى النتيجة ذاتها  التي وصلت إليها ، ولما جاء في ربيع عام 1845 للعيش في بروكسل ، قررنا أن نضع تصورنا معاً بما يعاكس المفهوم الأيديولوجي للفلسفة الألمانية ،وكان ذلك في الواقع تسوية حسابات مع ضميرنا الفلسفي السابق، و تم تحقيق ما عزمنا عليه في شكل نقد لفلسفةمابعدهيجل. وصلت مخطوطة العمل ، وهي مجلدين كبيرين من أوكتافو [المقصود كتاب الأيديولوجيا الألمانية] ، منذ زمن بعيد إلى دور النشر في ويستفاليا و علمنا أنه بسبب الظروف المتغيرة لا يمكن طباعتها. لقد تخلينا، طواعية، عن المخطوطة أمام النقد القاسي للفئران بعد أن حققنا هدفنا الرئيسي وهو توضيح الذات. فمن بين الأعمال المبعثرة التي عرضنا فيها في ذلك الوقت جانباً أو آخر من وجهات نظرنا للجمهور ، سأذكر فقط بيانالحزبالشيوعي ، الذي كتبته بالاشتراك مع إنجلز ، وخطابحولمسألةالتجارةالحرة ، الذي نشرته بنفسي حيث تم تحديد النقاط البارزة لمفهومنا لأول مرة في شكل أكاديمي ، على الرغم من الجدال ، حول فقر الفلسفة الخاص به [14]

إشارة ماركس في فقرة واحدة فقط إلى 'التوصل إلى نفس النتيجة ' ، و 'إدراكنا' ، و 'ضميرنا الفلسفي السابق'، و ' أن هدفنا الرئيسي هو توضيح الذات' ، و 'وجهات نظرنا' ، وأخيراً ، ' النقاط البارزة في مفهومنا' حددت بوضوح المستوى العالي جداً من التوافق النظري بينه وبين إنجلز. 

على الرغم من أن روكمور أشار إلى مقدمة ماركس للنقد ، إلا أنه لم يستشهد بهذا المقطع الحاسم. ليست هذه هي المناسبة الوحيدة ، كما سنرى ، التي تجاهل فيها روكمور تصريحات ماركس التي تتعارض مع أطروحته.

روكمور حول تعليم إنجلز غير الملائم

ركز روكمور ،في حماسه لتشويه سمعة إنجلز، على تعليم إنجلز غير الملائم حيث أكد روكمور أن المتعاون الدائم ماركس افتقر ببساطة إلى مستوى التعليم اللازم لفهم ماركس بشكل صحيح. كان إنجلز مجرد 'شخص عصامي تعلم بنفسه الفلسفة' و 'لم يكن مهتماً بالدقائق الفلسفية' [15] كما ذكر روكمور قرائه بأن

ماركس درس الفلسفة في الجامعة وحصل فيها على الدكتوراه. ومع ذلك ، لم يحصل إنجلز على شهادة جامعية. لم يدرس الفلسفة إلا بشكل متقطع ، وافتقر ببساطة إلى التدريب المطلوب ، ناهيك عن الموهبة الفلسفية ، للقيام بعمل فلسفي عالي الجودة من تلقاء نفسه. كما أنه افتقر إلى التقدير المتطور للمذاهب الفلسفية والإبداع الفلسفي المطلق لماركس.  وإن قيمناه بوصفه فيلسوفاً ، فهوكان في أحسن الأحوال هاوياً موهوباً مهتماً بالموضوع.[ 16]

يا له من مزيج مزعج من تكبُّر الأستاذ ورضاً غريب  عن الذات! بينما من الواضح أن البروفسور روكمور علق أهمية كبيرة على المؤهلات الأكاديمية ، فإنه سيكون من الصعب للغاية ، على أساس تاريخ الفكر الفلسفي ، إثبات وجود أي ارتباط بين القدرة على القيام بعمل فلسفي جاد وامتلاك  شهادة دكتوراة جامعية  جامعة. ، ناهيك عن منصب ثابت في قسم الفلسفة بالجامعة. إذا تم تطبيق معايير روكمور أساساً لتحديد من يمكن الحكم عليه على أنه فيلسوف جاد ، فسيتعين حذف عدد غير قليل من الأسماء المعروفة من التاريخ الفكري الغربي ، بما في ذلك أسماء سبينوزا وديكارت. كما أخبرنا ديزموند م. كلارك في سيرته الذاتية الجديدة الممتازة لمؤسس العقلانية الديكارتية ، 'كان تعليم ديكارت الرسمي تعليمياً ضيقاً ، ولم يوفر بالتأكيد أساساً للإصلاح الأساسي للمعرفة البشرية الذي أنجزه في النهاية'. [17]إن استخدام روكمور لمصطلح  'التعرف التلقائي' (التعلم الذاتي) مقصود به الازدراء ، ويمكن للمرء أن يلاحظ أن العديد من أعظم المفكرين والكتاب في التاريخ قد تم إدراجهم في هذه الفئة. 

على أي حال ، فإن عرض روكمور لإعداد إنجلز الفكري ، ناهيك عن اتساع وعمق معرفته ، لا سيما  الفلسفية منها ، هو عرض خاطئ تماماً. بحلول الوقت الذي أكمل فيه إنجلز دراسته في ثانوية إلبرفيلد ، كان قد وصل إلى مستوى تعليمي ، إذا جاز لي التخمين ، نادراً ما صادفه البروفيسور روكمور بين طلابه المرشحين لشهادة الدكتوراة. فوفقاً لتقريره المدرسي في سبتمبر 1837 قبل بلوغه السابعة عشر من العمر ، حقق إنجلز درجة من الكفاءة في اللغة اللاتينية لدرجة أنه 'لا يجد صعوبة في فهم الكتاب المعنيين سواء في النثر أو الشعر ، أي ليفيوس وشيشرون ، وفيرجيل وهوراس ، حتى يتمكن من متابعة خيط القطع الأطول بسهولة ، وفهم تسلسل الأفكار بوضوح ، وترجمة النص المعروض عليه بمهارة إلى اللغة الأم '. أما بالنسبة للغة اليونانية ، فقد ذكر تقرير المدرسة أن ' إنجلز 'قد اكتسب معرفة مرضية بالصرف وقواعد النحو ، ولا سيما الكفاءة والمهارة الجيدة في ترجمة كتاب النثر اليونانيين الأسهل ، وكذلك هوميروس ويوربيديس ، ويمكنه فهم ومتابعة الحوار الفكري الأفلاطوني بمهارة '. كما أعرب كاتب التقرير الرسمي  عن إعجابه بعمل إنجلز في الرياضيات والفيزياء و 'في المعالجة الفلسفيةالتمهيدية.[18]

بالنسبة للعمل الذي اعتمد على الادعاء بأن إنجلز افتقر إما إلى التدريب أو المهارة المطلوبة للقيام بعمل جاد في مجال الفلسفة ، فإنه من المذهل ألا يشير روكمور على الإطلاق إلى الحلقة التي أسست بداية مسيرة إنجلز المهنية، حتى قبل لقائه الأول مع ماركس ، بوصفه شخصية بارزة في الأوساط الفكرية الألمانية ، أي دحض إنجلز لفريدريك شيلينج. كان فيلسوفاً مسناً في الوقت الذي تم استدعاؤه إلى برلين عام 1841 لمواجهة تأثير الهيجيلية بين الطلاب الراديكاليين الديموقراطيين ، تسبب وصول شيلينج إلى العاصمة البروسية في حدوث ضجة. نُظر إلى محاضراته على أنها حدث فلسفي كبير وجذبت جمهوراً كبيرًا شمل ، من بين آخرين ، الشاب كيرغيغارد و باكونين  و إنجلز . إن شيلينج ، الذي سكن في شبابه مع هيجل وعده   في وقت من الأوقات من بين أقرب أصدقائه ، نبذ نظامه المثالي الموضوعي وتحول بحدة نحو الذاتية الفلسفية واللاعقلانية. علاوة على ذلك  فإن شهرة شيلينج المبكرة قد تلاشت بمجرد ظهور هيجل كشخصية مهيمنة في الفلسفة الألمانية. في  أعقاب وفاة هيجل في عام 1831 ، أصبحت سلطات الدولة البروسية منزعجة بشكل متزايد من الاستنتاجات الثورية التي استمدها الطلاب من أعمال الفيلسوف الراحل. كٌلف شيلينج بمهمة وقف انتشار عدوى هيجل الراديكالية.

في النضال من أجل الدفاع عن سمعة وإرث الهيغلية ، لم يكن سوى إنجلز الذي ظهر كشخصية رئيسية. ثلاثة أعمال كتبها إنجلز في عام 1841 - شيلينج والوحي ، شيلينجوهيجل،وشيلينج،الفيلسوفعلىشكلالمسيح ، أشاد بها الشباب الهيغلي اليساري بوصفها دحضاً حاسماً لشيلينج من وجهة نظر هيغلية. إن تعمد روكمور تجاهل هذه النصوص ، وهذا أمر من شأنه أن يفضح على الفور عبثية ادعائه بأن 'إنجلز لم يعرف الفلسفة ولا هيجل جيدا'   [19]أمر لا يمكن الدفاع عنه فكرياً.

إنجلز 'الوضعي'

أكد روكمور مراراً وتكراراً أن إنجلز كان 'إيجابياً' ، مقتنعاً بأن العلم حل الفلسفة تماماً ففقدت كل أهميتها الفكرية. ووفقاً لروكمور ، فإن إنجلز 'عامل هيجل باستمرار كما لو كانت فلسفة الأخير لا تعدو أن تكون سوى هراء ما قبل علمي'.[20] هذا يولد لدى المرء انطباعاً بأن روكمور اعتقد أنه في المناخ السائد لردود الفعل المناهضة للماركسية ، فقد تحرر من كل ما هو تقليدي من معايير سواء كان ذلك بياناً ما صحيحاً أو خاطئاً ، أو ما إذا كان يمكن دعمه على أساس النصوص المكتوبة والسجل التاريخي ، التي فقدت أهميتها تماماً. لم يكن  ما سعى إليه توضيحاً فكرياً أو دقة نظرية ، بل تحقيق أجندة أيديولوجية مسبقة.

لن يكون من الصعب ملء عشرات الصفحات بالاقتباسات التي أشاد فيها إنجلز بعبقرية هيجل ، الذي وصفه بشكل لا يُنسى بأنه 'العقل الموسوعي في عصره'.[21] وجد تقدير إنجلز لهيجل أكثر تعبيراته إثارة في كراسه الرائع عن لودفيجفيورباخونهايةالفلسفةالكلاسيكيةالألمانية. هناك ، أشار إنجلز إلى هيجل على أنه  'زيوسالأولمب' الذي قدم: 

ثروة من الأفكار المذهلة حتى اليوم مثل علم الخصائص الذهنية للعقل (الذي قد يسميه المرء موازياً لعلم الجنين الخاص بالعقل أو أحفوريات العقل، وهو تطور للوعي الفردي من خلال مراحل مختلفة ، يتم وضعه في شكل استنساخ مختصر للمراحل التي مر بها وعي الإنسان في مجرى التاريخ) ، والمنطق ، وفلسفة الطبيعة ، وفلسفة العقل ، وقد تم تفصيل الأخير بدوره في أقسامه الفرعية التاريخية المنفصلة: فلسفة التاريخ ، والقانون ، والدين ، وتاريخ الفلسفة ، وعلم الجمال ، وما إلى ذلك . و في كل هذه المجالات التاريخية المختلفة ، عمل هيجل على اكتشاف وإثبات خط التنمية السائد. ولأنه لم يكن عبقرياً مبدعاً فحسب ، بل كان أيضاً رجل سعة الاطلاع الموسوعي ، فقد لعب دوراً في صوغ حقبة في كل المجالات. لكن من البديهي أنه بسبب احتياجات 'النظام' ، كان عليه في كثير من الأحيان اللجوء إلى تلك الإنشاءات القسرية التي يثير خصومه الأقزام ضجة رهيبة بشأنها حتى اليوم. لكن هذه الإنشاءات ليست سوى إطار وسقالات لعمله. إذا كان المرء لا يتسكع هنا بلا داع ، بل يضغط أكثر على الصرح الضخم ، يجد المرء كنوزاً لا حصر لها لا تزال تحتفظ اليوم بقيمتها الكاملة. [22] 

كيف يمكن ، في ظل وجود هذا وعدد لا يحصى من المقاطع الأخرى التي كتبها إنجلز ، أن يدعي روكمور أن إنجلز رفض عمل هيجل بوصفه 'هراءً ما قبل علمي'؟ يجب أن يفترض روكمور أنه لا محرروه ، ولا المجتمع الأكاديمي الذي يتنقل فيه في مسيرته المهنية ، سوف ينزعجون من تلفيقاته. ففي الأعمال التي تتناول الماركسية ، يبدو أنه لا يوجد أي توقع للصرامة الأكاديمية و بدلاً من ذلك ، فإن الشعار السائد هو 'كل شيء مباح!'

إنجلز: حول العلاقة بين الفلسفة والعلم

إن تأكيد روكمور على أن إنجلز كان وضعياً ، أكد أن تطور العلم جعل الفلسفة زائدة عن الحاجة ، ليس أقل مجافة للصواب حيث  كتب إنجلز عكس ذلك بالضبط. لقد حذر مراراً وتكراراً من أن عمل حتى أذكى علماء الطبيعة كان محدوداً، لدرجة أنهم  افتقروا إلى الإلمام الجاد بتاريخ التفكير المفاهيمي البشري لأنه يجد تعبيراً عنه في تاريخ الفلسفة. وقد شدد إنجلز على أن  'فن' التفكير المفاهيمي ، الضروري للتفسير الصحيح لنتائج البحث التجريبي ، لا يمكن اكتسابه إلا من خلال الدراسة المضنية لتاريخ الفلسفة. وفي فقرة حاسمة ، كتب إنجلز:

لقد جمعت العلوم الطبيعية التجريبية مثل هذه الكتلة الهائلة من المواد الإيجابية للمعرفة لدرجة أن ضرورة تصنيفها في كل مجال من مجالات التحقيق المنفصلة بشكل منهجي ووفقاً لاتصالها الداخلي أصبحت حتمية تماماً. لقد أصبح من الضروري أيضاً ربط مجالات المعرفة الفردية بشكل صحيح مع بعضها البعض. ومع ذلك ، عند القيام بذلك ، يدخل العلم الطبيعي في مجال النظرية وهنا لن تنجح أساليب التجريبية ، وهنا فقط  يمكن أن يكون التفكير النظري مفيداً. لكن التفكير النظري صفة فطرية فقط في ما يتعلق بالقدرة الطبيعية لذا يجب تطوير هذه القدرة الطبيعية وتحسينها ، ولتحسينها لا توجد حتى الآن أي وسيلة أخرى غير دراسة الفلسفات السابقة. [23]

لا يمكنني مقاومة الرعبة بالاستشهاد بمقطع آخر ، قدم فيه إنجلز تصوراً لأهمية الفلسفة وهو عكس الموقف الذي نسبه إليه روكمور:

يعتقد علماء الطبيعة أنهم يحررون أنفسهم من الفلسفة بتجاهلها أو إساءة استخدامها. ومع ذلك ، لا يمكنهم تحقيق أي تقدم دون تفكير ، ومن أجل التفكير يحتاجون إلى قرارات فكرية. لكنهم يأخذون دون تفكير هذه المستويات من الوعي المشترك لما يسمى بالأشخاص المتعلمين ، الذي تهيمن عليه بقايا الفلسفات التي عفا عليها الزمن ، أو من القليل من الفلسفة التي يتم الاستماع إليها بشكل إلزامي في الجامعة (وهو ليس فقط مجتزأ ، ولكنه أيضاً خليطاً من آراء الناس الذين ينتمون إلى المدارس الأكثر تنوعاً والتي هي الأسوأ في العادة) ، أو من قراءة غير نقدية وغير منهجية للكتابات الفلسفية بجميع أنواعها. ومن ثم فهم ليسوا أقل عبودية للفلسفة ، ولكن للأسف في معظم الحالات هم عبيد لأسوأ أنواع الفلسفة ، وأولئك الذين يسيئون إلى الفلسفة هم على وجه التحديد عبيداً لأسوأ بقايا مبتذلة لأسوأ الفلسفات. [24]

يجب أن يسأل القارئ الآن نفسه سؤالاً: كيف يمكن، بالنظر إلى السجل الشامل لكتابات إنجلز ، أن يلتزم روكمور بتصريحات ورقية خاطئة بشكل صارخ؟ الجواب هو ، 'مرحبًا بكم في عالم الأكاديميين المحترفين المعادين للماركسية ، حيث يمكن تقبل  كل شيء!'

يتضح الغرض من هجوم روكمور على إنجلز بمجرد أن يوجه انتباهه إلى ماركس. فمن خلال الادعاء بأن إنجلز الجاهل فلسفياً هو الذي خلق ما يُعرف باسم 'الماركسية' من خلال تزوير وتشويه مفاهيم رفيقه وصديقه مدى الحياة ، يشعر روكمور بالحرية في كشف النقاب عن ماركس 'جديد'  أي ماركس يلغي ماركس حيث افترضت سردية ما بعد الحداثة أن إنجلز اختلق المادية بعد وفاة ماركس  وهكذا ، وعلى عكس ادعاءات إنجلز وعدة أجيال من 'الماركسيين' ، لم يكن لدى ماركس الحقيقي أي اختلافات جوهرية مع النظرة الفلسفية لهيجل. ادعى روكمور أنه:

من الضروري تجاوز الادعاءات الماركسية ذات الدوافع السياسية بالتمييز في النوع بين ماركس وهيجل ، أو مرة أخرى بين ماركس والفلسفة ، أو حتى بين الفلسفة والعلم ؛ لأنه بهذه الطريقة فقط يمكن للمرء أن يرى في التحليل النهائي أن ماركس ليس فيلسوفاً أو فيلسوفاً ألمانياً فحسب بل إنه ألمانياً هيغلياً ، ومن ثم فهو فيلسوف ألماني مثالي [25].

أي أنه يُتوقع منا أن نصدق ،أنه قبل روكمور حجب  'الماركسيون' وأنكروا ولاء ماركس الحقيقي للمثالية. كانت المواقف المادية والمعادية للهيجلية التي نسبوها إلى ماركس ، إلى حد بعيد، نتاجاً لعدم كفاءتهم النظرية في الأمور الفلسفية. كتب روكمور: 'إنجلز لم يعرف الفلسفة ولا هيجل جيداً'. 'فمنذ إنجلز ، كان القليل من الماركسيين ، بمن فيهم لينين ، على دراية جيدة بهيجل. ... أدى التشهير الماركسي بهيجل إلى تأخير إدراك أهميته بالنسبة لموقف ماركس ... '[26]

إن الادعاء بأن 'قلة من الماركسيين ، بمن فيهم لينين'  قاموا بدراسة متأنية لهيجل هو زيف صارخ آخر. مرة أخرى ، اعتمد روكمور على الإذعان الفكري لمجتمع أكاديمي غارق في السخرية واللامبالاة. إنه يعتبر أنه لا أحد ، على الأقل في الوسط الأكاديمي الذي يعمل فيه ، سيأخذه إلى مهمة كتابة أشياء ليس لها أي أساس في الواقع على الإطلاق. هل كلف  روكمور نفسه عناء مراجعة كتابات جورجي. بليخانوف ، 'أبو الماركسية الروسية'؟ حتى أولئك الذين يختلفون مع مفاهيم بليخانوف الفلسفية لم يدعوا ، بحسن نية ، أن معرفته بهيجل كانت أقل من أن تكون شاملة. هل روكمور غير مطلع على فكرة لينين عن علمالمنطقعندهيجل؟ الذي تم تأليفه في 1914-15 ، ثم تم لاحقاً نشر 'مفكرات لينين الفلسفية' الذي تضمن شرحه الشامل لمنطق هيجل،  تأثيراً كبيراً على تقدير الأساس النظري الثقل لعمل لينين السياسي. يبدو أن روكمور غير مدرك أن فكرة لينين بالتحديد هي التي ساهمت في إحياء الاهتمام النظري بهيجل بين العلماء الماركسيين  بما في ذلك ، بالمناسبة ، لوكاش ، الذي اعترف روكمور بأنه مقر بمكانته. ماذا عن كتابات تروتسكي، التي تُظهر إتقاناً للمنهج الديالكتيك[27]  أو أعمال المنظرين السوفييت الأوائل مثل ديبورين وأكسيلرود؟ قد نضيف أيضاً أعمال الفلاسفة السوفييت اللاحقين مثل ميخائيل ليفشيتس وإي. إيلينكوف ، الذي قدم مساهمات مهمة في فهم العلاقة بين هيجل وماركس على الرغم من الظروف القمعية في الاتحاد السوفيتي ، التي فرضتها بيروقراطية متميزة معادية للعمل النظري الجاد (أثناء حكم ستالين وبعده).

هل كان ماركس مثالياً؟

لقد بينا سابقاً أن أكبر عقبة أمام جهود روكمور لتصوير إنجلز على أنه إيجابي ، رفض ببساطة أهمية الفلسفة ، كانت كلمات إنجلز نفسه. وبالمثل ، فإن دحض ادعاء روكمور بأن ماركس كان مثالياً ألمانياً موجود في كتابات ماركس نفسه. إن الطريقة التي التف بها روكمور على أطراف أصابعه حول أعمال ماركس ، مستشهداً بشكل مقتصد وانتقائي للغاية ، تشير إلى أنه هو نفسه يدرك أن أطروحته تفتقر إلى أي أساس جوهري. بدأ روكمور بداية سيئة بالقول إن ماركس 'مسؤول جزئياً' عن الاعتقاد السائد بأنه انفصل عن هيجل. هذا لأن ماركس ، في المقطع الذي كثيراً ما يتم اقتباسه في 'الكلمة الأخيرة' للطبعة الثانية من 'رأس المال' ، اقترح 'بشكل غامض'. منذ زمن إنجلز ، تعاملت أجيال من الماركسيين مع موقف ماركس بوصفه  ارتداداً عن موقف هيجل.

في الواقع ، لا يوجد شيء أقل غموضاً في المقطع الذي يشير إليه روكمور. هذا ما كتبه ماركس في يناير 1873:

لا يختلف منهجي الديالكتيك عن الهيغلي فحسب ، بل إنه نقيضه المباشر. بالنسبة لهيجل ، فإن عملية حياة الدماغ البشري ، أي عملية التفكير ، والتي ، تحت اسم 'الفكر' ، تتحول حتى إلى موضوع مستقل، هي النفص الذي يسم العالم الحقيقي ، والعالم الحقيقي لا يعدو أن يكون الشكل الخارجي الهائل لـ 'الفكر'. أما في نظري  ، فالأمر معكوس ، فإن المثالية ليست سوى العالم المادي الذي يعكسه العقل البشري ، والمترجم إلى أشكال من الفكر. [28]

هذه الترجمة الإنجليزية هي ترجمة وفية لما كتبه ماركس بالألمانية الأصلية. لا يوجد في كلمات ماركس ما هو غامض أو مائل أو مشوش. قال ماركس ، بأكبر قدر ممكن من الوضوح ، أن طريقته الخاصة تختلف اختلافاً جوهرياً عن أسلوب هيجل  ' وأنها نقيضها المباشر'.  لماذا؟ لأن ديالكتيك هيجل هو ديالكتيك المثالي ، الذي يعدٌ العالم الحقيقي تجسيداً للفكر. بينما بالنسبة لماركس ، فإن أشكال الفكر هي انعكاس في العقل البشري لعالم مادي حقيقي موجود. لاحظ بشكل إضافي حقيقة أن عبارة 'يعكسها العقل البشري' هي التي استخدمها ماركس. من ناحية أخرى ، يخبرنا روكمور أنه 'لأغراضنا ، يكفي أن نشير إلى أن نظرية انعكاس المعرفة ، التي تم تبنيها لاحقًا من قبل مجموعة طويلة من الماركسيين ، ليس لها أساس في كتابات ماركس .[29] لاحظ ، أن كل شيء مباح!

عانى روكمور من صعوبات لا حد لها مع كتابات ماركس. فبالإشارة إلى نقدماركسلفلسفةالحقعندهيجل ، ذكر أن 'النص ، الذي لم يعده ماركس للنشر ، فيه تكرار ومن المؤلم إلى حد ما قراءته.'[30] لا شك أنه كذلك -لروكمورسبب عدم ارتياحه هو أن محتوى نقد ماركس لا يمكن بأي شكل من الأشكال أن يتوافق مع محاولة روكمور تصوير ماركس بوصفه مثالياً هيغلياً. ومع كتابة هذا النقد، بدأ ماركس العمل النظري (الذي ساهم فيه إنجلز بشكل كبير) الذي حطم الإطار المثالي لنظام هيجل الفلسفي ، وأزال الغموض عن منهجه الديالكتيكي ، وأسس من أجل تطوير أنطولوجيا مادية حقيقية متجذرة في الدراسة التاريخية للإنسان بوصفه كائناً اجتماعياً. إن الإنجاز الحاسم لنقد ماركس ، والذي قدم له في عمل السابق حول لودفيج فيورباخ (الذي لم يذكره روكمور فعلياً) وأعطى دفعة  فلسفية نقدية ، عبر إثباته النقص الأساسي لمثالية هيجل التأملية كأداة للتحليل التاريخي والاجتماعي . فبالنسبة لهيجل ، فإن المقولات المنطقية ، التي صاغها كلحظات موضوعية في إعادة تشكيل الديالكتيك للفكرة المطلقة ، مثلت الأساس الكامن والداخلي للواقع المادي نفسه وبالتالي اشتق أشكال الوجود من العملية الديالكتيكية للفكر المنطقي المجرد. في حين أثبت ماركس أن إجراء هيجل عكس العلاقة الحقيقية بين الوعي والواقع ، وبذلك منع الإدراك الحقيقي لـ'المجتمع المدني' (كما أشار هيجل إلى النظام الاجتماعي القائم) الذي يعيش فيه الإنسان. بدلاً من اكتشاف المصدر المادي للعمليات الاجتماعية الحقيقية ، تعامل هيجل معها من منظور العلاقات المنطقية المجردة كما شرح ماركس:

وبالتالي ، فإن انتقال الأسرة والمجتمع المدني إلى الدولة السياسية هو التالي حيث إن  عقل هذه المجالات ، الذي هو ضمنياً عقل الدولة ، تصرف الآن أيضاً مع ذاته على هذا النحو لأنه عد نفسه فعلياً عقلها الداخلي أي  النواة. وبالتالي ، فإن الانتقال انبثق ، ليس من الطبيعة الخاصة للعائلة ، وما إلى ذلك، ومن الطبيعة الخاصة للدولة ، ولكن من علاقة الضرورة العامة بالحرية. إنه بالضبط نفس الانتقال الذي حدث في المنطق من مجال الجوهر إلى مجال المفهوم. تم إجراء نفس الانتقال في فلسفة الطبيعة من الطبيعة غير العضوية إلى الحياة. إنها المقولات ذاتها  التي تزود الروح ، مرة في هذا المجال  ، ومرة في مجال آخر. إنها فقط مسألة اكتشاف السمات المجردة المقابلة للسمات الملموسة المنفصلة [31]

على سبيل المثال ، فحص ماركس مقطعاً معقداً وغامضاً و مميزاً من فلسفة هيجل للقانون حيث كتب:

الضرورة في المثالية (كتب هيجل) هيتطويرالفكرةداخلنفسها. كماالجوهرالذاتيهوالاقتناعالسياسي،ويجبالتمييزبينهاوبينجهازالدولة،والدولةالسياسيةالبحتةودستورها.[ 32]

ثم كشف ماركس عن الفقر التحليلي ، بل وحتى السفسطة ، الذي تم إخفاؤه في المصطلحات الهيغلية الغامضة:

الموضوع هنا هو 'الضرورة في المثالية' و 'الفكرة في ذاتها'. وسند ذلك هو  القناعة السياسية والدستور السياسي. وبلغة واضحة ، فإن الاقتناع السياسي هو الخضوع والدستور السياسي هو الجوهر الموضوعي للدولة. وبالتالي ، فإن التطور المنطقي من الأسرة والمجتمع المدني إلى الدولة هو مجرد ادعاء. إذ لم يشرح كيف ترتبط مشاعر الأسرة ، والمشاعر المدنية ، ومؤسسة الأسرة ، والمؤسسات الاجتماعية على هذا النحو بالآراء السياسية والدستور السياسي ، وكيف ترتبط ببعضها البعض. [33]

كما كتب ماركس حول هيجل:

المصلحة الوحيدة هي إعادة اكتشاف 'الفكرة' الخالصة والبسيطة ، 'الفكرة المنطقية'، في كل عنصر، سواء كان من الدولة أو الطبيعة ، والموضوعات الفعلية ، في هذه الحالة هي 'الدستور السياسي' ، تصل إلى أن تكون تسميات لا أكثر بحيث يكون كل ما لدينا هو ظاهر الفهم الحقيقي الذي ظل غير مفهوماً ، لأنه لم يتم استيعابه في طابعه الخاص [34] 

إن نقطة الضعف الرئيسية في طريقة هيجل هي:

أنه لا يطور تفكيره من الموضوع ، ولكنه يشرح الموضوع وفقاً لتفكير مقطوع جاف تم تشكيله بالفعل وإثباته في المجال المجرد للمنطق. إنها ليست مسألة تطوير فكرة محددة للدستور السياسي ، بل تعلق الأمر بإقامة علاقة سياسية وتكوين فكرة مجردة ، ووضعها كمرحلة في تاريخ حياة الفكرة ، بحيث تكون قطعة واضحة من الغموض [35]

وهكذا ، لخص ماركس الخطأ الأساسي للمنهج الهيغلي:

لا يتألف العمل الفلسفي من تجسيد التفكير في التعريفات السياسية ، ولكن في تبخير التعاريف السياسية القائمة إلى أفكار مجردة. ليس منطق الأمر ، ولكن مسألة المنطق هي العنصر الفلسفي ولا يفيد المنطق في إثبات الدولة ، بل على الدولة إثبات المنطق  . [36]

تخطى روكمور نقد ماركس لمنهجية هيجل وقام بإشارة موجزة وغامضة إلى نقد ماركس لاشتقاق هيجل للدولة من المنطق ، دون الاعتراف بأهميتها بعيدة المدى في التطور النظري لماركس نفسه. في الواقع ، حاول روكمور رفض ذلك  باعتباره سوء فهم ، مشيراً إلى أنه 'يجب أن نسأل أنفسنا ما إذا كان نقد ماركس لهيجل أنصف هيجل، أو بالأحرى ارتكز على قراءة خاطئة ...'[37]  سعى مشروع روكمور لإعلان ماركس ، من ناحية ، بوصفه مثالي هيغلي ، وأن الخلق اللاحق لـ 'ماركسية' مناهضة للمثالية هو نتاج الاضطرابات التي أدخلها المغتصب المادي فريدريك إنجلز. ومع ذلك ، ومن ناحية أخرى ، كلما اضطر روكمور للإشارة إلى أعمال ماركس التي انتقدت هيجل على أسس مادية ، اقترح الأستاذ أن ماركس ببساطة ما عرف ما كان يتحدث عنه.

تقدم روكمور بنفس المراوغة عند التعامل مع سلسلة الأعمال التي أعقبت كتاب النقد ، التي أزال فيها ماركس (بالتعاون المتصاعد الأهمية  مع إنجلز) الغموض المادي وإعادة صياغة الديالكتيك الهيغلي. ليس لدى روكمور ما يقوله فعلياً عن تحليل ماركس المطول والمفصل للمنهج الهيغلي في المخطوطاتالاقتصاديةوالفلسفيةلعام 1844. أطلق ماركس هذا القسم ، نقدالديالكتيكالهيغليوالفلسفةككل وبرر ماركس كتابة هذا النقد بالحاجة إلى التمييز بين عمله وعمل هيجل وأيقوناته. و تولى ماركس مهمة الهيجليين اليساريين المعروفين مثل برونو باور لفشلهم في تبني نهج حاسم في الموقف من معلمهم. ومن ناحية أخرى ، أعرب ماركس عن الإعجاب الأكبر بفيورباخ ، الذي أشاد به بوصفه 'الشخص الوحيد الذي لديه موقف جاد ونقدي تجاه الديالكتيك الهيغلي والذي حقق اكتشافات حقيقية في هذا المجال. إنه في الحقيقة الفاتح الحقيقي للفلسفة القديمة '.[38] لماذا أشاد ماركس بفيورباخ إذا كان ينظر إلى نفسه على أنه هيغلي؟

كما رفض روكمور العمل العظيم التالي الذي أنتجه ماركس مع إنجلز ،وهو كتاب  العائلةالمقدسة ، حيث كتب:

تضمن الكتاب الكثير من الجدل القاحل الموجه ضد باور والهيغليين اليساريين الآخرين وحين  يكون في أفضل حالاته [أي عندما يتفق ماركس مع روكمور] ، يكون ماركس كاتباً ذا بصيرة ، ويقظاً وسريع الاستجابة لمختلف الفروق الدقيقة بين المؤلفين الذين كن لهم احتراماً ، وقادراً على امتلاك بصيرة رائعة. هذا الكتاب ، على العكس من ذلك ، هو تقريباً جدلي بالكامل ، وهو عبارة عن مجموعة من الآراء التبسيطية [أي التي تتعارض مع روكمور] ، التي تفتقر إلى الفروق الدقيقة في الكتابات الماركسية السابقة واللاحقة ، وهي تميل إلى  التنديد على حساب  الفهم ، ومليئة بالتعارضات الحادة. [39]

العائلة المقدسة

بالنسبة لروكمور ، فإن 'الفروق الدقيقة' تعني حقاً التعتيم ، وهي خاصية لا توجد في عمل ماركس النظري. إن انتقاد الأخير لموقف هيجل محدد بوضوح بحيث يصعب تشويهه وإساءة عرضه. و يكاد يكون من المستحيل وصف المفاهيم التي قدمها ماركس بأنها متوافقة مع التخمين المثالي لهيجل. مثل كتاب العائلة المقدسة تقدماً حاسماً نحو تطوير الإدراك المادي للتاريخ وتحديد البروليتاريا  بوصفها قوة ثورية في المجتمع البرجوازي. ويجب أن توفر الممارسة المادية لهذه الطبقة ، وليس الحركة الذاتية للمفاهيم المنطقية ، الأساس للتحول الثوري للمجتمع. إن الأساس الحقيقي للثورة الاجتماعية لا يكمن في فكر أي عامل فردي ، بل في الكائن الاجتماعي المتمثل بالبروليتاريا  بوصفها طبقة. تبرز الآثار التاريخية لنقد ماركس للمثالية التأملية الألمانية مع اكتشاف ماركس و إنجلز ، 

أن إن المسألة ليست ما الذي يعتبره هذا البروليتاري أو ذاك ، أو حتى البروليتاريا كلها، هدفه في الوقت الحاضر. إنه سؤال حول ماهية البروليتاريا ، وما الذي ستضطر إلى فعله تاريخياً وفقاً لهذه الكينونة. إن هدفها وعملها التاريخي محددان بشكل واضح ولا رجعة فيه في وضع حياتها الخاصة وكذلك في كل تنظيم المجتمع البرجوازي اليوم  . [40]

ليس من المستغرب أن روكمور لم يستشهد بهذا المقطع الحاسم الذي بزغ فيه تعبير نظري واعي حول ظهور البروليتاريا كطبقة ثورية جديدة في كتابات ماركس و إنجلز و من المفترض أنه وجدها 'قاحلة' للغاية ، وتفتقر إلى 'الفروق الدقيقة' ، و 'جدلية' للغاية ، و 'بسيطة للغاية' بحيث لا تستحق التعليق.

هناك قسم مهم آخر من كتاب العائلة المقدسة اختار روكمور تجاهله ألا وهو  الخطوط العريضة المطولة لتطور المادية الحديثة. بعد أن أعلن بالفعل أن 'المادية هي عقيدة واضحة لدى إنجلز ، لكنها بالتأكيد أقل وضوحاً عند ماركس' ، [41] لا يستطيع روكمور أن يرحب بمراجعة كتاب العائلة المقدسة المختصرة ببراعة ، التي كتبها ماركس نفسه ، حول تطور المادية الحديثة منذ القرن السابع عشر و إسهامها العميق في تطور الفكر الاشتراكي:

كما انتقلت المادية الديكارتية إلى العلوم الطبيعية ، فإن الاتجاه الآخر للمادية الفرنسية يؤدي مباشرة إلى الاشتراكية والشيوعية.

ليست هناك حاجة لأي تغلغل كبير لنرى من تعليم المادية حول الخير الأصلي والموهبة الفكرية المتساوية للرجال ، والقدرة المطلقة للخبرة والعادة والتعليم ، وتأثير البيئة على الإنسان ، والأهمية الكبرى للصناعة ، وتبرير المتعة ، وما إلى ذلك ، كيف ترتبط بالضرورة المادية بالشيوعية والاشتراكية. إذا استمد الإنسان كل معرفته ، وإحساسه ، وما إلى ذلك ، من عالم الحواس والخبرة المكتسبة فيه ، فإن ما يجب فعله هو ترتيب العالم التجريبي بطريقة يختبرها الإنسان ويعتاد على ما هو حقاً إنسانه فيه وأن يدرك نفسه بوصفه إنساناً. [42] 

عجز روكمور، نتيجة موقفه الرافض تجاه نقد ماركس لمثالية هيجل ، عن فهم أسس نظرية ماركس للمجتمع الرأسمالي ، ناهيك عن أهم مساهماته في تطوير الاقتصاد السياسي العلمي فكتب:

إن الفكرة المركزية في نظرية ماركس حول التنافس الاقتصادي ليست نظريته حول القيمة ، ولا روايته عن السلع ، ولا مفهومه عن الاغتراب ، ولا حتى نظرته إلى تقديس السلع. إنها بالأحرى البصيرة الحاسمة ، القائمة على أعمال آدم سميث التي طورها هيجل جزئياً ، ومفادها  أن المجتمع الحديث هو مرحلة انتقالية ناشئة عن جهود الأفراد لتلبية احتياجاتهم في الإطار الاقتصادي للعالم الرأسمالي. [43]

هنا لدينا تفاهة مبتذلة قد يواجهها المرء في فصل دراسي بالمدرسة الثانوية حول الاقتصاد المنزلي حيث تم عد(أن المجتمع الحديث يتكون من أفراد يحاولون كسب لقمة العيش) هو الذي مثل  'البصيرة الحاسمة' التي استخلصها ماركس من تحليلاته المضنية عن الاقتصاد المنزلي. إن كتابات هيجل وآدم سميث (اللذين خصص لهما ماركس عدة مئات من الصفحات في نظرياته عن فائض القيمة)! ومع ذلك ، هناك علاقة بين هذه الملاحظة المبتذلة وتحريف روكمور الخاطئ لتطور ماركس النظري. فهو رفض جميع العناصر الأكثر أهمية في نظرية ماركس العامة للمجتمع الرأسمالي ككل ، التي لم يكن اكتشافها وتفصيلها ممكناً لولا نقد المثالية التأملية وإعادة صياغة الديالكتيك الهيغلي. في الواقع ، انبثق 'التحول الاقتصادي' لماركس ، الذي بدأ عام 1844 ، بالضرورة من الموقف النقدي الذي اتخذه تجاه اشتقاق هيجل للعالم من حركة المفاهيم المنطقية. إن التفسير المادي للأسس الحقيقية للمجتمع البشري وانعكاسه الضروري في أشكال محددة من الوعي الاجتماعي يتطلب أن تحول الفلسفة انتباهها من السماء إلى الأرض ، بعيداً عن الرب في جميع ه (بما في ذلك الإله الفلسفي في فكرة هيجل المطلقة) حول الإنسان ، بعيداً عن التأمل المجرد للفكر الخالص إلى دراسة العمل باعتباره الأساس الحقيقي للخلق والتكاثر والتنمية الثقافية للمجتمع البشري.

على الرغم من الطابع الشامل والواضح لإدانة ماركس ، حاول روكمور ، من خلال العبث بالمصطلحات إنقاذ تصويره لماركس  بوصفه فيلسوفاً مثالياً لم ينفصل حقا عن هيجل و كتب ، 'إذا فهمنا' المثالية 'على أنها تشير إلى فكرة أن الذات تنتج عالمها وتنتج نفسها بمعنى ما ، فمن الواضح أن ماركس مثالي'.[44] بعبارة أخرى ، أي شخص يقبل أن البشر يتمتعون بالوعي ، وبالقدرة على التأثير في العالم ، وبالتالي ، تغيير العالم وأنفسهم ، هم مثاليون. هذا التعريف يتهرب من القضايا المركزية التي ينطوي عليها التصادم بين المثالية والمادية ، ويسمح بدمج وجهات النظر الفلسفية الأكثر تنوعاَ وتعارضاً. يؤكد تعريف روكمور أن المثالية تشمل جميع الميول الفلسفية التي تعدٌ الوعي قوة نشطة وخلاقة في التاريخ.

المادة والوعي

هذا يتركنا بلا إجابة عن مسألتين فلسفيتين هامتين ومتشابكتين. ترتبط الأولى بعلاقة الفكر بالمادة ، وتطرح الأسئلة التالية: هل توجد المادة بشكل مستقل عن الوعي، أم أن الوعي نشأ بشكل مستقل عن المادة؟ هل المادة تسبق الفكر أم العكس؟ هل وجود العالم المادي شرط مسبق مطلق للوعي ، أم أن الوعي (أو الروح) يمكن أن توجد إما بدون عالم مادي أو بشكل مستقل عنه؟ هل خلق الكون سبق الوعي ، أم كان الوعي موجوداً قبل ظهور الكون إلى الوجود؟ في حين تثير المسألة الثانية ، المتجذرة في الأولى ، أسئلة تتعلق بطبيعة وموثوقية العملية المعرفية ، أي إلى أي مدى يمكن للعقل أن يعرف ما هو موجود خارجه؟ هل يمكن التفكير في تقديم عرض دقيق للواقع؟

حددت الإجابات التي قدمها مختلف الفلاسفة على هذه الأسئلة ما إذا كانوا ينتمون إلى معسكر المثالية أو المادية. فأولئك الذين أكدوا ، بشكل أو بآخر ، أولوية الفكر على المادة ، والوعي على الوجود ، هم مثاليون. أما أولئك الذين ، على عكس هذا الموقف ، أكدوا على أسبقية المادة على الوعي ، وأصروا على أن الوعي ظهر فقط كنتاج لتطور المادة ، فهم ماديون.

إن تعريف روكمور للمثالية لا يعدو أن يكون سوى حيلة هدفت إلى إرباك القضايا الفلسفية النقدية. علاوة على ذلك ، فهو بالكاد أول من وجد أساساً عالمياً للمثالية في الحقيقة التي لا يمكن إنكارها وهي أن البشر يتصرفون بوعي كما أشار إنجلز:

لا يمكننا ببساطة التهرب من حقيقة أن كل ما يحفز الرجال يجب أن يمر عبر أدمغتهم بما في ذلك الأكل والشرب، الذين يحفزهما الإحساس بالجوع أو العطش الذي ينتقل عبر الدماغ ، وينتهي بنتيجة الإحساس بالرضا الذي ينتقل  بدوره عن طريق الدماغ. إن تأثير العالم الخارجي على الإنسان يعبر عن نفسه في دماغه ، وينعكس فيه مشاعراً ، وأفكاراً ، ودوافعاً ، وإرادة ، باختصار ، نظراً لأنها 'ميول مثالية' ، و تصبح 'قوى مثالية'. إذن ، إذا كان الرجل يُعتبر مثالياً لأنه يتبع 'الميول المثالية' ويعترف بأن 'القوى المثالية' لها تأثير عليه ، فإن كل شخص يتطور بشكل طبيعي على الإطلاق يكون مثالياً بالفطرة وفي هذه الحالة كيف يمكن أن يكون هناك ماديون؟ [45]

ليس الاعتراف بوجود 'القوى المثالية' أو تأثيرها على البشر هو الموضوع في الخلاف بين المادية والمثالية ، بل بالأحرى كيفية فهم أصول وطبيعة تلك 'القوى المثالية' وشرحها . هل يمكن العثور على مصدر 'المثالية' ، في التحليل النهائي ، خارج العقل ، في عالم مادي موجود بشكل موضوعي ، أم لا؟

حاول روكمور مراراً وتكراراً تحريف الإجابة التي قدمها ماركس عن هذا السؤال ، والذي كان دائماً مادياً بشكل لا لبس فيه. فعلى سبيل المثال ، في التعامل مع الطريقة المستخدمة في كتابة رأس المال ، استشهد روكمور بتعقيب وردفي  الطبعة الألمانية الثانية ، حيث كتب  ماركس: 'إذا انعكست حياة الموضوع بشكل مثالي كما في المرآة ، فقد تظهر كما لو كان أمامنا مجرد بناء مسبق '. وعلق روكمور على ذلك:

إن صياغة ماركس هنا خلقت التباساً. من الواضح أنه لا يتبنى نظرية انعكاس المعرفة التي ابتكرها إنجلز للماركسية. كما أنه لا يقول أن المعرفة في الواقع تتطلب أن يعكس العقل حرفياً عالماً مستقلاً [46]

المثالي والواقعي

مرة أخرى ، حاول روكمور إنكار مادية ماركس ومواجهة آرائه مع آراء إنجلز عن طريق الحيلة. إن استخدام كلمة 'حرفياً' هو هجاء تم إدخاله فقط لإحداث الارتباك. فالقضية الحاسمة هي ما إذا كان العقل يعكس عالماً مستقلاً. والأشكال المثالية ، التي ينعكس فيها العالم المادي ، معقدة ومتناقضة. وتتم عملية إعادة الإنتاج المثالية للواقع في العقل البشري من خلال عملية تجريد مشروطة تاريخياً واجتماعياً. بهذا المعنى المحدد ، لا يعمل العقل فقط كـ'مرآة' ، حيث يتم إعادة إنتاج الواقع ، على أساس انعكاس فوري ، بكل تعقيداته .[47] ومع ذلك ، في التحليل النهائي ، فإن الصور والأفكار والمفاهيم التي تظهر في العقل البشري انعكاسات لواقع موضوعي موجود خارج عقل الذات المعرفية. 

تظهر كلمات ماركس ذاتها التي اقتبسها روكمور، من التعقيب على رأس المال، على الفور تقريباً بعد مقطع طويل وصف فيه نظرة ماركس الفلسفية وطريقته التحليلية من قبل مراجع معاصر يكتب لمجلة روسية. استشهد ماركس باستحسان من المراجعة ، التي نصت جزئياً ما يلي:

تعامل ماركس مع الحركة الاجتماعية على أنها سيرورة تاريخية طبيعية تحكمها قوانين ليست مستقلة عن الإرادة البشرية فحسب. بل على العكس حيث أن ظهور الوعي والذكاء ، هو تحديد لتلك الإرادة والوعي والذكاء. ... إذا كان العنصر الواعي في تاريخ الحضارة يلعب دوراً ثانوياً جداً ، فمن البديهي أن التحقيق النقدي الذي يكون موضوعه الحضارة ، يمكن ، في الحدود الدنيا  ، أن يكون أساسه أي شكل من الوعي  أو أن يكون نتيجة للوعي. وهذا يعني أن ليست الفكرة ، بل الظاهرة المادية وحدها التي يمكن أن تكون نقطة انطلاقه.[ 48]

اختار روكمور عدم الاستشهاد بهذا المقطع. 

وبدلاً من ذلك ، شرع في إنهاء تحليله المبطن للخطوة النهائية من خلال الادعاء بأن ماركس 'أعاد تأكيد ما هو واضح في إعلان نفسه بوصفه هيغلياً ...' يا لهذا المفكر الجبار ' وبعد أن شرحنا بالتفصيل بالضبط ما الذي فصل الطالب المادي عن المعلم المثالي وختم شرح علاقة طريقته بمنهج هيجل بالقول:

الغموض الذي يعاني منه الديالكتيك في يد هيجل ، لا يمنعه بأي حال من أن يكون أول من قدم شكله العام للعمل بطريقة شاملة وواعية وأوقفه على رأسه ويجب أن نقلبه إلى الأعلى مرة أخرى ، إذا كنت ستكتشف النواة المنطقية داخل الصدفة الغامضة. [49] 

يجب أن يكون واضحاً الآن أن ادعاء روكمور أن 'ماركس كان مثالياً بشكل واضح'؛[50] وأن 'ماركس ، بقدر ما  يختلف عن الماركسية ، ملتزماً بالمثالية'  [51]وهذا شوه الموقف الفلسفي الذي اتخذه ماركس منذ عام 1843 حتى وفاته في عام 1883. ومع ذلك ، فمن المناسب تسوية هذه الحجة الخاصة بالسماح لماركس ، مرة أخرى ، بالتحدث باسم نفسه. ففي رسالة كتبها إلى صديقه لودفيج كوجلمان في 6 مارس 1868 ، انتقد ماركس بشدة مراجعة لرأس المال كتبه الأستاذ الشاب يوجين دوهرينغ (أصبح في ما بعد موضوع الجدل الخالد لإنجلز). كتب ماركس متذمراً من أن دوهرنغ 'مارس الخداع':

إنه يعرف جيداً أن أسلوبي في الشرح ليس هيغلياً ، لأنني مادي ، في حين أن هيجل مثالي. ديالكتيك هيجل هو الشكل الأساسي لكل الديالكتيك ، ولكن فقط بعد تجريده من شكله الصوفي ، وهذا هو بالضبط ما يميز منهجي. [52] 

من الصعب تصديق أن البروفيسور روكمور فشل في العثور على هذه الرسالة المعروفة أثناء تحضيره لكتابه. وبدلاً عن ذلك ، اختار ببساطة تجاهلها. وهكذا ، فإن التهمة التي وجهها ماركس ضد دوهرينغ يمكن أن توضع بشكل ملائم على عتبة باب روكمور.

ماركس الإصلاحي

إذن ، ما هو الغرض من جهود روكمور المضنية لفصل ماركس عن إنجلز والماركسية ، وإعادته في نفس الوقت إلى المثالية الهيغلية؟ تأتي الإجابة أخيراً بالقرب من خاتمة الكتاب ، لما زعم روكمور اكتشاف 'مقطع مذهل' في المجلد 3 من رأس المال، تنكر فيه ماركس لآرائه السابقة حول ضرورة الثورة الاجتماعية. كتب روكمور: 'وفقاً لماركس ، فإن الحرية ، التي تبدأ فقط حين يتوقف العمل القسري ، تتمثل في إرساء السيطرة على العملية الاقتصادية في ظروف مواتية للبشر. وعلى الرغم من ضرورة تلبية الاحتياجات الحقيقية من خلال العملية الاقتصادية ، أي في عالم الضرورة ، فإن ما سماه ماركس الآن مجال الحرية يكمن وراءه باقتراحه أن شرطه المسبق يكمن في تقصير يوم العمل ، فإنه أشار ضمنياً إلى أن الهدف من الحرية التاريخية الحقيقية هو امتلاك الحرية في  وقت الفراغ '[53].

ثم استشهد روكمور بإسهاب بماركس:

في الحقيقة ، يبدأ عالم الحرية واقعياَ فقط حيث يتوقف العمل الذي تحدده الضرورة والاعتبارات الدنيوية ؛ ومن ثم فهي تقع في طبيعة الأشياء خارج مجال الإنتاج المادي الفعلي. فمثلما يجب على الهمجي أن يصارع الطبيعة لإشباع رغباته ، وللحفاظ على الحياة وإعادة إنتاجها ، كذلك يجب على الإنسان المتحضر ، ويجب أن يفعل ذلك في جميع التشكيلات الاجتماعية وفي جميع أنماط الإنتاج الممكنة مع تطوره يتوسع عالم الضرورة الجسدية نتيجة لرغبات المرء ؛ ولكن في الوقت نفسه ، تزداد أيضاً قوى الإنتاج التي تلبي هذه الرغبات. يمكن أن تتكون الحرية في هذا المجال فقط من الإنسان الاجتماعي ، ومن المنتجين المرتبطين به ، الذين ينظمون بعقلانية تبادلهم مع الطبيعة ، ويضعونه تحت سيطرتهم المشتركة ، بدلاً من أن تحكمها قوى الطبيعة العمياء ؛ وتحقيق ذلك بأقل إنفاق للطاقة وتحت ظروف أكثر ملاءمة وجديرة بطبيعتهم البشرية. لكن هذا لا ينفي استمرار عالم الضرورات. بعد ذلك تبدأ الطاقة البشرية بتطوير عالم الحرية الحقيقي ، الذي هو غاية في حد ذاته ،  والذي ، مع ذلك ، لا يمكن أن يزدهر إلا مع عالم الضرورة هذا أساساً له.  إن تقصير يوم العمل هو شرطه الأساسي. [54]

وقد أعدت إنتاج المقطع كما استشهد به روكمور بالكامل ، بحيث يمكن للقارئ أن يقرر بنفسه ما إذا كان الاستنتاج الذي توصل إليه روكمور مبرراً على أقل تقدير بما كتبه ماركس بالفعل.

يمكن قول أشياء كثيرة عن هذا المقطع الرائع. ولعل أكثرها وضوحا هو أنه بعد سنوات عديدة من النضال من أجل الشيوعية ، تخلى ماركس هنا بوضوح عن ذلك كشرط مسبق لحرية الإنسان الحقيقية. لم تعد الحرية تكمن في الانفصال عن مرحلة سابقة في المجتمع ، أي في الثورة ، بل في تحسين أساسي في ظروف الحياة ، أو في الإصلاح. باختصار ،استبدل  ماركس الثورة بالإصلاح.  [55]

مما لا شك فيه أنه يمكن قول أشياء كثيرة عن هذا المقطع ، لكن لا شيء مما قاله روكمور صحيحاً. إن العثور في هذا المقطع على رفض الثورة لصالح الإصلاح يتطلب أن يعكس  المرء معنى  كل جملة تقريباً. زعم ماركس أن 'الحرية' يمكن أن تتحقق من خلال 'الإنسان الاجتماعي ، ومن حلال المنتجين المترابطين في ما بينهم  ، الذين ينظمون بعقلانية مبادلاتهم مع الطبيعة ، ويضعونها تحت سيطرتهم المشتركة ، بدلاً من أن تحكمها قوى الطبيعة العمياء .. ' هذا ، بالطبع ، لا يمكن تحقيقه إلا من خلال الإطاحة بالرأسمالية ، حيث يكون نمط الإنتاج الاقتصادي قائم على  الفوضى التي تضع  السوق في خدمة  القوي. على هذا الأساس ، ستتوسع الحرية ، التي تُفهم على أنها تنمية القدرات الإبداعية للإنسان ، خارج نطاق العمل الذي تمليه ضرورة الحفاظ على الحياة وإعادة إنتاجها. تنشأ الحرية من الضرورة وتظل متجذرة فيها ، أي من حاجة الإنسان إلى الحصول من الطبيعة على كل ما يحتاجه للبقاء والتكاثر. أما في ما يتعلق بتقصير يوم العمل ، فهذا هو المقياس الأساسي للتعدي التدريجي على الحرية عند الضرورة ، ولكن لا يمثل  في حد ذاته تحقيق الحرية ، وبالتأكيد ليس في إطار الرأسمالية. لا يوجد في هذا المقطع ما يدعم العبارة التالية التي أدلى بها روكمور:

لطالما كانت الماركسية معادية للإصلاح. ومع ذلك ، بدا في هذا المقطع أن ماركس حمل أملاً في أن المجتمع الصناعي الحديث والحرية الإنسانية الحقيقية قابلان للتوافق من حيث المبدأ إذا وفقط إذا تمكن البشر من استعادة السيطرة على العملية الاقتصادية ، التي هي السيد الحقيقي في المجتمع الرأسمالي .[ 56]

 لكن السيطرة العقلانية على الحياة الاقتصادية غير ممكنة في ظل الرأسمالية ، ولا يمكن أن يخضع الدافع للربح لتحقيق الاحتياجات البشرية البحتة.  

ثبت في خاتمة المطاف أن ما دافع عنه روكمور هو ماركس بدون مادية تاريخية ،و بدون إنجلز ،و بدون ماركسية ، أنه ماركس بدون ثورة اشتراكية ، 'ماركس' الذي لم يقف على رأسه فحسب ، بل مكبل اليدين ومكمم الفم.

خاتمة

من الضروري إرفاق هذا الاستعراض بتعقيب  موجز حيث  تلا نشر كتاب ماركس بعد الماركسية إصدار مجلد حرره البروفيسور روكمور بعنوان التحدي الفلسفي في 11 سبتمبر. وفي مقدمة هذا المجلد ، شارك في تأليفه روكمور وجوزيف مارغوليس (أستاذ الفلسفة في جامعة تمبل). نقرأ ما يلي:

يتساءل المرء ما إذا كنا مستعدين للتعامل مع أحداث 11 سبتمبر وفقاً للمصطلحات والتصنيفات المألوفة في تقاليدنا ، أو ما إذا كانت تقاليدنا كافية حتى للتصدي لهذه المهمة. نحن لم نعد متأكدين  من أدواتنا التحليلية. ... تبدو الفلسفة السياسية كما عرفناها الآن وقدعفا عليها الزمن ، ويبدو أنها غير قادرة على مساعدتنا في وقت حاجتنا.

يشك المرء في أن المأزق يمتد إلى مجالات أخرى. كل التأكيدات المفاهيمية الجاهزة لدينا مشوشة بسبب أحداث الحادي عشر من سبتمبر. والافتراض بأننا استولينا على العالم في نظرياتنا قد أعاقه العالم نفسه. لقد تغير العالم بطرق لم يكن أحد يتوقعها. لا يمكننا تشخيص أحداث الحادي عشر من سبتمبر بأي تطبيق بسيط للأدوات المعتادة. إنها تتحدى إحساسنا بالنظام المقروء ، ولا يمكننا أن نقول متى ستتكيف تصنيفاتنا  مرة أخرى [57].

يبدو هذا اعتراف بالشلل النظري والإفلاس الفكري في مواجهة الواقع ، وبالكاد يمكن للمرء أن يتخيل انكشافاً للذات أكثر إحراجاً. يريد البروفيسور روكمور أن نصدق أن الطائرات التي استولى عليها الخاطفون حطمت ليس فقط مركز التجارة العالمي ، ولكن الهياكل المعرفية والتحليلية التي تطورت خلال 2500 عام من الفكر الفلسفي أيضاً.

لا يخبرنا روكمور بما بالسمة  التي سبغتها  أحداث الحادي عشر من سبتمبر من طابعها الذي لا يمكن فهمه بشكل فريد. فبعد كل ما حدث في القرن العشرين من فظائع الحربين العالميتين ، والهولوكوست ، والتطهير الستاليني ، وإسقاط قنبلتين ذريتين ، وأعمال همجية أخرى لا حصر لها ، أودت بحياة مئات الملايين البشر فما الذي ميز 11 سبتمبر 2001 عن كل المآسي السابقة؟ ما هي الصفات والخصائص الجديدة وغير المتخيلة التي كشفت عنها أحداث ذلك اليوم؟

يبدو الآن واضحاً إلى حد ما أن هجوم روكمور على الماركسية قد تركه بشكل فريد غير مستعد لمواجهة التحدي السياسي الأول في القرن الحادي والعشرين. فبعد أن أعلن موت 'الماركسية' وعدم الشرعية الفلسفية للدحض الماركسي للمثالية الهيغلية ، فشل روكمور بشكل واضح في اكتشاف بنية نظرية بديلة تمكنه من تحليل وفهم الواقع المعاصر.

Footnotes

[1] Tom Rockmore, Marx After Marxism: The Philosophy of Karl Marx (Oxford: Blackwell

Publishers, 2002), p. xi.

[2] Errol Harris, The Spirit of Hegel (New Jersey: Humanities Press, 1993), p. 11.

[3] Ibid., p. 47.

[4] Paul Franco, Hegel's Philosophy of Freedom (New Haven and London: Yale University Press,

1999), p. ix.

[5] Ibid., p. 77.

[6] David MacGregor, The Communist Ideal in Hegel and Marx (Toronto: University of Toronto

Press, 1984), p. 3–4.

[7] Ibid., p. 11.

[8] David MacGregor, Hegel, Marx and the English State (Toronto, Buffalo and London:

Westview Press, 1992), p. 7.

[9] David MacGregor, Hegel and Marx After the Fall of Communism (Cardiff: University of

Wales Press, 1998), p. 116–118.

[10] Warren Breckman, Marx, the Young Hegelians, and the Origins of Radical Social Theory

(Cambridge: Cambridge University Press, 1999), p. 2.

[11] Ibid., p. 3.

[12] Marx After Marxism, p. 1.

[13] Ibid., p. 8.

[14] Karl Marx and Frederick Engels, Collected Works Volume 29 (New York: International

Publishers, 1987), p. 264.

[15] Marx After Marxism, p. 9.

[16] Ibid., p. 10.

[17] Desmond M. Clarke, Descartes: A Biography, (Cambridge: Cambridge University Press, 2006), p. 37.

[18] Karl Marx and Frederick Engels, Collected Works, Volume 2, (New York: International

Publishers, 1975), pp. 584–585.

[19] Marx After Marxism, p. 162.

[20] Ibid., p. 15.

[21] Karl Marx and Frederick Engels, Collected Works, Volume 25 (New York: International

Publishers, 1987) p. 25.

[22] Karl Marx and Frederick Engels, Collected Works, Volume 26 (Moscow: Progress Publishers,

1990), p. 361–362.

[23] Karl Marx and Frederick Engels, Collected Works, Volume 25, p. 338.

[24] Ibid., p. 490–491.

[25] Marx After Marxism, p. 161. 

[26] Ibid., p. 162.

[27]

أن في رده الجدلي على البروفيسور جيمس بورنهام ، وهو براغماتي ومعارض مر لهيجل

 (الذي كان قد ندد به باعتباره 'الفقير الإنساني الذي مات قرناً من الزمان') ، أشاد تروتسكي بالفيلسوف الألماني العظيم: 'كتب هيجل قبل داروين وقبل ماركس. بفضل الدافع القوي الذي أعطته الثورة الفرنسية للفكر ، توقع هيجل الحركة العامة للعلم. لكن لأنه كان توقعاً لا أكثر ، على الرغم من أنها فكرة عبقرية ، فقد جعلت من هيجل شخصية مثالية. عمل هيجل بظلال أيديولوجية على أنها الحقيقة المطلقة. في حين أظهر ماركس أن حركة هذه الظلال الأيديولوجية لا تعكس سوى حركة الأجسام المادية '. في الدفاع عن الماركسية (لندن: منشورات نيو بارك ، 1971) ، ص. 66] وفي ختام معركة الفصائل التي اندلعت داخل الحركة التروتسكية في 1939-1940 ، نبذ بورنهام السياسة الاشتراكية وبدأ تطوره السياسي السريع إلى اليمين المتطرف.

[28] Karl Marx, Capital, Volume 1 (London: Lawrence & Wishart, 1974), p. 29.

[29] Marx After Marxism, p. 6.

[30] Ibid., p. 47.

[31] Karl Marx and Frederick Engels, Collected Works, Volume 3 (New York: International

Publishers, 1976), p. 10.   

[32] Ibid.

[33] Ibid., p. 10–11.

[34] Ibid., p. 12.

[35] Ibid., p. 14.

[36] Ibid., pp. 17–18.

[37] Marx After Marxism, p. 48.

[38] Karl Marx and Frederick Engels, Collected Works, Volume 3, p. 328.

[39] Marx After Marxism, p. 75.

[40] Karl Marx and Frederick Engels, Collected Works, Volume 4, (New York: International

Publishers, 1975), p. 37.

[41] Marx After Marxism, p. 5.

[42] Karl Marx and Frederick Engels, Collected Works, Volume 4, p. 130.

[43] Marx After Marxism, p. xvi.

[44] Ibid., p. 70.

[45] Karl Marx and Frederick Engels, Collected Works, Volume 26 (Moscow: Progress Publishers,

1990), p. 373.

[46] Marx After Marxism, p. 131.

[47]

 كتب لينين في كتابه 'مفاهيم علم المنطق' لدى هيجل: 'المنطق هو علم الإدراك. إنه نظرية المعرفة. والمعرفة هي انعكاس الطبيعة من قبل الإنسان. لكن هذه ليست عملية بسيطة ، وليست فورية ، وليست انعكاساً كاملاً ، ولكنها عملية تتضمن  سلسلة من التجريدات ، وتشكيل وتطوير المفاهيم والقوانين ، وما إلى ذلك ، وهذه المفاهيم والقوانين ، وما إلى ذلك (الفكر ، العلم يعادلان  'الفكرة المنطقية') تتبنى ، بشكل مشروط ، تقريباً ، الطابع العالمي الخاضع لقانون الطبيعة المتحركة والمتطورة إلى الأبد. يوجد هنا في الواقع ، بشكل موضوعي ، ثلاثة أعضاء: 1) الطبيعة ؛ 2) الإدراك البشري المعتمد على  الدماغ البشري (بوصفه المنتج الأعلى لهذه الطبيعة نفسها) ، و 3) شكل انعكاس الطبيعة في الإدراك البشري ، ويتألف هذا الشكل بدقة من المفاهيم والقوانين والفئات ، وما إلى ذلك. إن الفهم يعادل الانعكاس وهو انعكاس الطبيعة ككل ، في اكتمالها ، وفي 'كليتها المباشرة' ، يمكنه فقط الاقتراب من هذا إلى الأبد ، وخلق التجريدات ، والمفاهيم ، والقوانين ، والصورة العلمية للعالم ، وما إلى ذلك. '  ]لينين ، الأعمال المجمعة ، المجلد 38 (موسكو: Progress Publishers ، 1972) ، ص. 182]. وفي فقرة أخرى ، لاحظ لينين: 'الإدراك هو تقريب الفكر الأبدي الذي لا نهاية للموضوع. ويجب أن يُفهم انعكاس الطبيعة في فكر الإنسان على أنه  ليس 'أقل من الحياة' ، وليس 'بشكل تجريدي' ، ولا يخلو من الحركة ، ولا يخلو من التناقضات ، ولكن في عملية الحركة الأبدية ، وظهور التناقضات وحلها '. ]المرجع نفسه ، ص. 195[

[48] Karl Marx, Capital, Volume 1, p. 27.

[49] Ibid., p. 29.

[50] Marx After Marxism, p. 70.

[51] Ibid., p. 179.

[52] Karl Marx and Frederick Engels, Collected Works, Volume 42 (New York: International

Publishers, 1987), p. 544.

[53] Marx After Marxism, pp. 172–173.

[54] Ibid., p. 173. (Original passage appears in Capital, Volume 3, p. 820).

[55] Ibid.

[56] Ibid.

[57] Tom Rockmore, Joseph Margolis and Armen T. Marsoobian, ed., The Philosophical Challenge

of September 11 (Malden MA, Oxford, Carlton Victoria: Blackwell Publishing, 2005), p. 3.