العربية

إسرائيل والفلسطينيون: دولة تقوم على السلب والتطهير العرقي. الجزء الثاني

هذه هي المقالة الثانية من جزئين. تم نشر الجزء الأول في 24 أكتوبر 2023.

سياسة إسرائيل الكبرى

كانت حرب 1967 نقطة تحول في تطور سياسة إسرائيل الكبرى المتمثلة في ضم الأراضي التي تم الاستيلاء عليها بشكل دائم.

[Photo by Government Press Office (Israel) / CC BY-SA 4.0]

وسّعت الحرب الحدود الفعلية لإسرائيل وخلقت موجات جديدة من اللاجئين والنازحين داخلياً. وأنشأت حكومة الوحدة الوطنية، برئاسة رئيس الوزراء العمالي ليفي أشكول، مستوطنات على الطراز الاستعماري في الأراضي التي تم احتلالها حديثاً في تحدٍ للاتفاقيات الدولية. وقد خلقت المستوطنات بدورها فئة اجتماعية لها مصلحة خاصة في سياسة إسرائيل التوسعية، مما وفر قطب جذب لبعض القوى الأكثر رجعية، التي يتولى ورثتها الفاشيون السلطة اليوم، وهم يملون السياسة. وقد أدت هذه القوى إلى تحريك السياسة الإسرائيلية بسرعة نحو اليمين في العقد الثامن من القرن الماضي ، مما أدى إلى زيادة عدم الاستقرار الاجتماعي وإنهاء قبضة حزب العمال على الحكومة.

[Photo by National Photo Collection of Israel, Photography dept / CC BY-SA 3.0]

تم تكثيف القمع لفرض احتلال الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية وغزة من خلال فرض الحكم العسكري، والعقاب الجماعي، وهدم المنازل، والترحيل القسري، والاعتقال دون محاكمة، في حين أصبح الفلسطينيون مجموعة من العمالة الرخيصة التي يتم استغلالها بهمجية من قبل أرباب العمل الإسرائيليين. وانتقلت القيادة الفلسطينية أولاً إلى الأردن، إلى أن طردتها حرب همجية على يد الأردن عام 1970، ثم إلى لبنان.

وفي أعقاب فوز زعيم الليكود مناحيم بيغن في الانتخابات عام 1977، أطلقت إسرائيل سياسة توسعية قاتلة في لبنان، من خلال سلسلة من الغارات والتوغلات والعمليات السرية بالتحالف مع القوى الفاشية اللبنانية ضد الفلسطينيين وحلفائهم خلال الحرب الأهلية التي استمرت 15 عاماً في البلاد. وكان من المقرر أن تستمر هذه الحروب والأنشطة السرية لمدة 30 عاماً.

[Photo: Robin Moyer, USA, Black Star for Time. Beirut, Lebanon, 18 September 1982. ]

قُتل ما يقدر بنحو 32.000 فلسطيني وعدد لا يحصى من اللبنانيين مقابل  قرابة 1500 إسرائيلي خلال العمليات التي شملت مذبحة 3000 فلسطيني في صبرا وشاتيلا، مخيم اللاجئين الفلسطينيين في بيروت، على يد حلفاء إسرائيل الكتائبيين تحت حماية إسرائيل سبتمبر 1982.

احتيال أوسلو

أدت هجمات إسرائيل على الفلسطينيين في لبنان وانتهاكاتها المتزايدة لحقوق الإنسان في الأراضي المحتلة إلى اندلاع الانتفاضة الأولى، وهي الانتفاضة الفلسطينية العفوية في الفترة 1987-1993 التي اندلعت خارج سيطرة منظمة التحرير الفلسطينية. تم قمعها بهمجية من قبل إسرائيل مما أدى إلى مقتل أكثر من 1000 فلسطيني، أي أكثر من 6 أضعاف عدد اليهود الإسرائيليين الذين قُتلوا.

وأدى ذلك إلى توقيع اتفاقيات أوسلو في عام 1993 من قبل رئيس الوزراء العمالي الإسرائيلي إسحاق رابين وعرفات في حديقة البيت الأبيض، مع موافقة عرفات ومنظمة التحرير الفلسطينية على الاعتراف بإسرائيل ونبذ الإرهاب.

وكان من المفترض أن تؤدي الاتفاقات إلى إنشاء دويلة فلسطينية عاصمتها أبو ديس، إحدى ضواحي القدس الشرقية، وهو ما يسمى بحل الدولتين. وسوف يتولى عرفات والسلطة الفلسطينية دور إسرائيل في السيطرة على الجماهير الفلسطينية في دولة مقسمة تتألف من بانتوستانات غير متجاورة، و منفصلة عن إسرائيل ولكن ضمن إطارها. وهذا حال دون توفير أي إمكانية لتحقيق الديمقراطية للفلسطينيين.

لقد رفض القوميون المتطرفون في إسرائيل وممثلوهم السياسيون في حزب الليكود وغيره من الأحزاب اليمينية والدينية المتطرفة حتى هذه الاستهزاء بدولة فلسطينية على الأرض التي يطمحون إليها. وبعد عامين فقط، في أكتوبر/تشرين الأول 1995، أدان القوميون المتدينون اليمينيون، بتحريض من زعماء المعارضة المروجين للحرب، أرييل شارون وبنيامين نتنياهو، رابين ووصفه بالخائن في مظاهرة غاضبة في القدس. وبعد شهر واحد، اغتال متعصب ديني رابين.

استخدمت إسرائيل اتفاقيات أوسلو لتوسيع المستوطنات في الضفة الغربية بشكل أسرع من أي وقت مضى، والسيطرة على المياه والموارد الأخرى، وبناء الطرق وإقامة أكثر من 600 نقطة تفتيش، مما أدى إلى تعطيل الحركة في جميع أنحاء المنطقة وتدمير اقتصادها. وتسيطر المستوطنات، التي تضم الآن ما لا يقل عن 500 ألف إسرائيلي، أو ما يقرب من 20% من السكان، على نسبة أكبر بكثير من الأراضي، بما في ذلك الأراضي الأكثر خصوبة وإنتاجية.

وضمت إسرائيل القدس الشرقية، وهي جزء من الضفة الغربية، في انتهاك للقانون الدولي، ولم يعد سكانها الفلسطينيون الآن سوى أغلبية ضئيلة بعد بناء حوالي 200 ألف منزل استيطاني. وفي السنوات الأخيرة، اندلعت اشتباكات متكررة بين الفلسطينيين والشرطة بسبب التهديد بإخلاء عائلات فلسطينية من حي الشيخ جراح وسلوان بناء على طلب الجماعات اليمينية والدينية المتطرفة بقيادة بن جفير.

[Photo: Associated Press/Laurent Rebours)]

أدت هذه الظروف إلى اندلاع الانتفاضة الثانية في سبتمبر/أيلول 2000، بعد المسيرة الاستفزازية التي قام بها أرييل شارون عبر مجمع المسجد الأقصى تحت حراسة عسكرية لتأكيد سيطرة إسرائيل على ثالث أقدس المواقع الإسلامية. وكانت الانتفاضة في نفس الوقت انتفاضة ضد قيادة منظمة التحرير الفلسطينية التي أقرت اتفاقيات أوسلو الكارثية. بين عامي 2000 و2008، قتلت قوات الأمن الإسرائيلية ما يقرب من 5000 فلسطيني، أي حوالي خمسة أضعاف عدد الإسرائيليين الذين قتلوا على يد الفلسطينيين.

الجدار العازل وحصار غزة

ثم أمر شارون ببناء جدار الفصل سيئ السمعة الذي سرق 10 بالمائة أخرى من الأراضي الفلسطينية لعزل إسرائيل عن الفلسطينيين وعزل آلاف الفلسطينيين عن عائلاتهم وأماكن عملهم. وأصبحت الاغتيالات التي استهدفت القادة الفلسطينيين روتينية، وسط مطالب اليمين المتطرف بـ 'نقل السكان' والتدابير الرامية إلى تنفيذ التطهير العرقي لمواجهة 'القنبلة الديموغرافية الموقوتة'. ويتجاوز عدد الفلسطينيين الآن عدد اليهود داخل حدود إسرائيل المعترف بها دولياً والأراضي المحتلة.

[Photo by joeskillet/Flickr / CC BY 2.0]

وفي عام 2005، أغلق شارون 14 مستوطنة إسرائيلية وسحب الجيش من قطاع غزة، مع الحفاظ على السيطرة على الدخول برا وبحرا وجوا. وقد هذا يخفي عملية الاستيلاء على الأراضي الأكثر أهمية في الضفة الغربية التي حصلت على الضوء الأخضر من قبل إدارة بوش.

وبعد مرور عامين، وفي أعقاب إنزال حماس الهزيمة  لمحاولة انقلاب نفذتها قوات فتح، فرضت إسرائيل حصاراً خانقاً حول غزة إلى غيتو فقير، مما أدى إلى تدمير حياة سكانها، فهي حرمت غزة من أي استقلال، ولا تقدم سوى الحد الأدنى من الخدمات الأساسية مثل المياه والكهرباء، بعد تدمير جزء كبير من البنية التحتية العامة والمباني السكنية والمستشفيات والمدارس والمساجد في أعقاب الهجمات القاتلة على القطاع، التي تصفها بأنها 'جز العشب '. و شملت هذه العمليات عملية الرصاص المصبوب (2008-09)، وعملية عمود السحاب (نوفمبر/تشرين الثاني 2012)، وعملية الجرف الصامد (2014). وبلغ إجمالي عدد القتلى الفلسطينيين في أكثر من سبع هجمات كبرى على غزة من قبل أعتى قوة جوية في الشرق الأوسط ما لا يقل عن 4164 شخصاً، مع مقتل 102 إسرائيلياً فقط.

[Photo by Al Jazeera Creative Commons Repository / CC BY 3.0]

وبسبب عدم القدرة على تنفيذ أي عملية إعادة إعمار، كان الوضع الاقتصادي في غزة سيئاً قبل الهجوم الحالي بوقت طويل. ويعتمد حوالي ثلاثة أرباع الأسر في غزة على شكل ما من أشكال المساعدات التي تقدمها الأمم المتحدة والوكالات الأخرى، التي قال الاتحاد الأوروبي إنها الآن 'قيد المراجعة'. ففي عام 2012، توقعت الأمم المتحدة أن الجيب المحاصر سيكون غير صالح للسكن بحلول عام 2020، لكنها قامت بمراجعة الوضع في عام 2017 للتحذير من أن 'تراجع التنمية' يحدث بشكل أسرع مما كان متوقعاً.

إن الوضع داخل إسرائيل بالنسبة للمواطنين الفلسطينيين، الذين يشكلون 20% من السكان، محفوف بالمخاطر. صارت تجمعاتهم موطناً لبعض من أفقر الناس في البلاد، وتواجه مجتمعاتهم الإهمال الرسمي والتمييز في الميزانية.  إن هذه هي مستويات الفقر والبطالة السائدة وأدت إلى سيطرة العصابات الإجرامية المتنافسة على المدن والقرى العربية، مما أسفر عن مقتل أكثر من 180 شخصًا منذ بداية العام.

في مايو 2021، خرج المواطنون الفلسطينيون في إسرائيل إلى الشوارع في إضرابات واحتجاجات وأعمال شغب اندلعت بسبب اقتحام الشرطة العنيف للمسجد الأقصى وأعمال التطهير العرقي الهمجية في القدس الشرقية. وكانت هذه هي المرة الأولى التي ينضمون فيها إلى إضراب عام مع الفلسطينيين في الأراضي المحتلة للاحتجاج على الهجوم على غزة وضد دستور إسرائيل الذي أقر  الفصل العنصري. ويخطط ائتلاف نتنياهو اليميني المتطرف لحرمان أعضاء الكنيست الفلسطينيين من العمل في البرلمان الإسرائيلي ومنع أحزابهم من الترشح للانتخابات.

ثورة المظلومين

إن هذه المعاناة الهائلة هي التي أدت إلى تحرك الفلسطينيين يومي 7 و9 أكتوبر/تشرين الأول. لقد كانت تلك الثورة بمثابة مهمة انتحارية جماعية، فقد كانت ثورة شعب مضطهد عازم على الهروب من معسكر الاعتقال الذي حبسته فيه إسرائيل، بدعم من جميع القوى الكبرى.

[AP Photo/Adel Hana]

وكما أوضح موقع الاشتراكية العالمية (WSWS)، فإن الدولة التي تأسست على 'قاعدة القمع المستمر للفلسطينيين كانت دائماً غير قادرة على تطوير مجتمع ديمقراطي حقيقي' وجرى  تطورها كدولة حامية للإمبريالية الأمريكية، في حالة حرب متكررة مع جيرانها العرب وفي حرب دائمة مع الفلسطينيين؛ واتباع سياسة 'إسرائيل الكبرى' التوسعية؛ إن الاعتماد بقوة أكبر على المستوطنين اليمينيين في الأراضي المحتلة والإعانات العسكرية الأمريكية لتعويض التأثير المزعزع للاستقرار الناجم عن المستويات الحادة من عدم المساواة الاجتماعية من بين أعلى المعدلات في العالم، هو ما مهد الطريق للمسخ الفرانكشتايني لحكومة نتنياهو'.

إن حرب الإبادة الجماعية التي تشنها إسرائيل على غزة هي الدليل النهائي على الجوهر الرجعي للصهيونية. إن الدولة الرأسمالية التي يُزعم أنها توفر ملاذاً آمناَ لليهود أنتجت بدلاً من ذلك عقوداً من الموت والتطهير العرقي وسلب ممتلكات الفلسطينيين الذين يعيشون هناك، مما وضع اليهود الإسرائيليين في صراع دائم مع جيرانهم العرب.

وقالت اللجنة الدولية للأممية الرابعة (ICFI) في 9 أكتوبر:

لقد وصلت الطبقة الحاكمة في إسرائيل الآن إلى النقطة التي لا يمكن فيها الحفاظ على المنظور الرجعي المتمثل في تأمين دولة يهودية حصرية من خلال الطرد القسري للفلسطينيين إلا من خلال القتل الجماعي والتطهير العرقي. يُطلب من العمال اليهود شن هذه الحرب تحت قيادة حكومة المجرمين الفاشيين. إنها حرب تمثل مقدمة لحريق أوسع بكثير إلى جانب الحرب التي تقودها الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي ضد روسيا في أوكرانيا وإيران وحلفائها في سوريا وحزب الله في لبنان، و تهدد بنشر الموت على نطاق لا يمكن تصوره.

لا يمكن إنهاء حرب إسرائيل القذرة إلا من خلال العمل السياسي المستقل للطبقة العاملة في جميع أنحاء الشرق الأوسط وعلى المستوى الدولي، بما في ذلك العمال الإسرائيليين المستعدين لاتخاذ موقف ضد كراهية الأجانب القومية لدى جميع حكامهم وأحزابهم.

وعلى مدى  الحركة التي استمرت تسعة أشهر التي عارضت الانقلاب القضائي الذي قام به نتنياهو وجهوده لتولي سلطات دكتاتورية، حذر موقع WSWS من أن جميع قادة الاحتجاجات الذين نصبوا أنفسهم يشتركون في سياسة نتنياهو التوسعية على حساب الفلسطينيين، كما هو الحال مع رغبة قادة الوحدة الوطنية ، رئيسا الأركان السابقان للجيش الإسرائيلي، بيني غانتس وغادي آيزنكوت، للانضمام إلى حكومته الفاشية لمواصلة الحرب. فبعد ادعائهما بدعم المظاهرات الحاشدة ضد نتنياهو وبن جفير وسموتريتش، ها هما قد دعيا الآن مئات الآلاف من جنود الاحتياط إلى قتل المدنيين الأبرياء والموت من أجلهما. وسوف يرتبطان إلى الأبد في أعين العالم بواحدة من أفظع الجرائم في القرن الحادي والعشرين.

وتصر اللجنة الدولية للأممية الرابعة على أن عدو العمال والشباب في إسرائيل ليس الفلسطينيين، بل حكومة نتنياهو والطبقة الحاكمة الإسرائيلية:

إن المفارقة التاريخية والسياسية الكبرى للوضع الحالي هي أن الطبقة العاملة الإسرائيلية لا تستطيع الدفاع عن حقوقها الديمقراطية دون النضال من أجل الحقوق الديمقراطية للشعب الفلسطيني ضد الاضطهاد الصهيوني. ولا يستطيع الفلسطينيون تحقيق تطلعاتهم إلى الحقوق الديمقراطية والمساواة الاجتماعية دون تشكيل تحالف نضالي مع الطبقة العاملة الإسرائيلية. إن المنظور الوحيد القابل للتطبيق ليس 'حل الدولتين' الأسطوري، بل دولة اشتراكية موحدة للعمال اليهود والعرب.

إن الانتفاضة في فلسطين هي في حد ذاتها جزء من انفجار متطور للغضب والمعارضة في شكل إضرابات واحتجاجات جماهيرية في جميع أنحاء العالم. إن هذه الحركة الاجتماعية، التي تسترشد ببرنامج ومنظور اشتراكي وثوري واعي، هي التي يجب تعبئتها لوضع حد للحرب الإمبريالية وعدم المساواة وجميع أشكال القمع. هذا هو منظور وبرنامج الأممية الرابعة التروتسكية، بقيادة اللجنة الدولية.

Loading