العربية

غزة: من مستعمرة إلى سجن مفتوح إلى ميدان القتل – الجزء الأول

هذه المقالة هي الجزء الأول من سلسلة مكونة من جزأين.

تُظهر اللقطات الجوية التي تم نشرها على وسائل التواصل الاجتماعي الحجم غير المسبوق للدمار الذي أحدثه القصف الإسرائيلي الشامل على غزة. لقد تم طمس أحياء بأكملها. وأُجبر أكثر من مليون شخص على ترك منازلهم. إن إغلاق إسرائيل لحدود غزة وقطع إمدادات الغذاء والوقود والكهرباء وحتى مياه الشرب قد تسبب في معاناة لا يمكن تصورها بعد أن صار  عدد الوفيات اليومي مروع.

ومع استهدافها للمستشفيات والمدارس وغيرها من أماكن اللجوء، أصبح من الواضح أكثر من أي وقت مضى أن سياسات إسرائيل المزدوجة المتمثلة في القصف الشامل والحرمان من جميع سبل العيش تهدف إلى طرد الفلسطينيين من غزة وضمان عدم عودتهم أبداً. وهذه سياسة مخططة مسبقاً سعت إسرائيل على مدى سنوات إلى تحقيقها من خلال التهجير القسري لسكان غزة إلى صحراء سيناء المصرية، كما كشفت الوثائق المسربة التي كتبتها وزارة المخابرات الإسرائيلية والمقابلات في الصحافة الإسرائيلية. وذكرت صحيفة 'ميكوميت' الصادرة باللغة العبرية يوم الأحد أن 'الوثيقة توصي بالنقل القسري لسكان قطاع غزة إلى سيناء بشكل دائم، وتدعو إلى تسخير المجتمع الدولي لدعم هذه الخطوة'.

ومع أن عدد الفلسطينيين في إسرائيل والأراضي الفلسطينية المحتلة يفوق عدد اليهود قليلاً الآن، فإن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو وحكومته الفاشية ينظرون إلى الحرب والتطهير العرقي باعتبارهما الحل الوحيد 'للمشكلة الديموغرافية'. ففي خطابه للأمة، تعهد بأن رد إسرائيل على هجوم الفلسطينيين على إسرائيل في 7 تشرين الأول/أكتوبر من شأنه أن 'يغير الشرق الأوسط' وأن 'ما سنفعله بأعدائنا في الأيام المقبلة سوف يتردد صداه معهم لأجيال'.

إن حرب الإبادة الجماعية هذه ضد المدنيين في غزة هي تصعيد للسياسات التي انتهجتها البرجوازية الإسرائيلية منذ عقود، بهدف تجريد الشعب الفلسطيني من أراضيه وممتلكاته ومنازله، الأمر الذي تفترض النخبة الحاكمة أنه يعني فقدان الذاكرة التاريخية الجماعية.

فمنذ الاستيلاء على الضفة الغربية وقطاع غزة عام 1967، أصبحت سياسات إسرائيل تجاه الفلسطينيين، بما في ذلك القمع العسكري والسياسي، أكثر صرامة من أي وقت مضى. عانت غزة منذ 16 عاماً من الحصار الخانق الذي فرضته إسرائيل والسلطة الفلسطينية ومصر، و توقعت الأمم المتحدة في عام 2012 أنه سيجعل القطاع المحاصر غير صالح للسكن بحلول عام 2020، لكنها حذرت في عام 2017 من أن هذا يحدث بشكل أسرع مما توقعت. 

[Photo: British government - Archive.org]

تنبع هذه الأحداث بلا هوادة من إنشاء إسرائيل كحل لمشكلة الاضطهاد الأوروبي لليهود،  حيث سيجدون ملاذاً آمناً وعدالة اجتماعية ومساواة. كانت الدولة في الواقع مبنية على تجريد شعب آخر من ممتلكاته وتم الحفاظ عليها من خلال الحروب المتصاعدة والتوسع الإقليمي والقمع، إلى جانب عدم المساواة الاجتماعية في الداخل الأمر الذي أدى إلى نشوب حرب مع جيرانها العرب استمرت حتى عام 1949. تأسست إسرائيل في عام 1948 على 80% من الأراضي التي كانت تحت سيطرة البريطانيين بموجب الانتداب الممنوح من عصبة الأمم، مع استيلاء الملك عبد الله ملك شرق الأردن، الدولة العميلة لبريطانيا، على الضفة الغربية وهيمنة مصر على قطاع غزة. وكان هذا أقل مما أرادته أي من الفصائل الصهيونية المختلفة. لكن أول رئيس وزراء لإسرائيل، ديفيد بن غوريون، اتخذ نهجاً عملياً: تمثل أولاً، بإنشاء دولة يهودية ثم تغيير الحدود في وقت لاحق.

حرب 1967 ونهب المستعمرات الفلسطينية الجديدة التي أقامتها إسرائيل

وقد أتاحت حرب عام 1967 لإسرائيل الفرصة لتغيير الحدود وإنكار أن الاستيلاء على الضفة الغربية وقطاع غزة يشكل 'احتلالاً' للأراضي الأجنبية لأنها كانت جزءاً من فلسطين وليس الأردن ومصر.

ففي يونيو/ حزيران 1967،و بعد فترة من الصراع المتصاعد مع سوريا، اغتنمت إسرائيل الفرصة التي قدمها الرئيس المصري جمال عبد الناصر كزعيم للأمة العربية لشن ضربة استباقية ولكن مخطط لها منذ فترة طويلة ضد جيرانها العرب، هدفت إلى 'تحسين' وتوسيع حدود إسرائيل الي رُسمت عام 1949 إذ  استولت على مرتفعات الجولان السورية، وعلى الضفة الغربية والقدس الشرقية الخاضعتين للسيطرة الأردنية، التي ضمتها على الفور، وشبه جزيرة سيناء في مصر، فضلاً عن قطاع غزة الذي سيطرت عليه مصر.

[Photo by Government Press Office (Israel) / CC BY-SA 4.0]

و في حين  أعادت إسرائيل سيناء لمصر بعد توقيع اتفاقيات كامب ديفيد عام 1979 مع خليفة عبد الناصر أنور السادات، وجزء من الجولان السوري بعد حرب عام 1973، لكنها احتفظت بمعظم الجولان والضفة الغربية وقطاع غزة، موطن حوالي 1.4 مليون فلسطيني. كان العديد من اللاجئين قد فروا أو طردوا من منازلهم في ما أصبح إسرائيل في عام 1948.

تحركت إسرائيل بسرعة، مع اتخاذ بعض التدابير حتى قبل انتهاء حرب الأيام الستة، لدمج الأراضي التي احتلتها حديثاً في اقتصادها. ففي الواقع، كانت الأراضي الفلسطينية ستشكل مستعمرة حديثة، حتى بعد أن اضطرت القوى الأوروبية إلى منح الاستقلال الرسمي لمستعمراتها في أفريقيا وآسيا، مع تأثير مدمر على كل جانب من جوانب الحياة الفلسطينية، في حين استفادت نخبة إسرائيل التجارية. 

وفرضت حكومة حزب العمل في إسرائيل بقيادة ليفي أشكول الحكم العسكري للدفاع عن سياستها الاستعمارية على الأرض وإخضاع الفلسطينيين. ويُشترط على الفلسطينيين أن يحملوا بطاقات هوية ويخضعون لقيود على حريتهم في التنقل من خلال حظر التجول وإقامة حواجز على الطرق. قوبلت المقاومة بالعقاب الجماعي، وهدم المنازل، والترحيل القسري، والاعتقال دون محاكمة.

وسيطرت إسرائيل على المؤسسات المالية والنقدية، وأجبرت أولئك الذين يسعون للحصول على قروض لبدء المشاريع على الامتثال للوائح الإسرائيلية، وجعلت من المستحيل عملياً على الفلسطينيين تحقيق التصنيع والتنافس مع الشركات الإسرائيلية. واستبدلت بالشاقل  العملات الأردنية والمصرية والسورية في تجارتها الفلسطينية الخاصة التي خضعت لرقابة مشددة.

وبحلول عام 1983، كانت إسرائيل قد صادرت أكثر من 52% من الضفة الغربية، ومعظم أراضيها الزراعية الرئيسية. وعشية اتفاقيات أوسلو عام 1993، غطت هذه المصادرات أكثر من ثلاثة أرباع الأراضي. و خلال السنوات العشر الأولى من الاحتلال، عندما تولى حزب العمل السلطة، تم بناء المستوطنات الأولى حول السكان الفلسطينيين في القدس الشرقية وفي وادي الأردن لمنع توسع الأحياء الفلسطينية في المدينة و'تشجيعهم' على المغادرة. و بحلول عام 1977، كان هناك 4500 إسرائيلي يعيشون في الضفة الغربية و50000 في القدس الشرقية.

أدى انتخاب حكومة الليكود برئاسة مناحيم بيغن في مايو 1977 إلى تحويل بناء المستوطنات إلى مشروع عرقي ديني و تم بناء المستوطنات بمجموعة من الحوافز المالية في قلب الضفة الغربية المجاورة للبلدات والمدن الفلسطينية الكبرى. وبحلول عام 1983، ارتفع عدد المستوطنين في الضفة الغربية إلى 28,400 مستوطن.

وأعاقت القيود المفروضة على تطوير البناء والبنية التحتية والوصول إلى طبقات المياه الجوفية التنمية، بما في ذلك الزراعة التي يعتمد عليها عدد كبير جداً من الفلسطينيين، وأجبرتهم على ترك أراضيهم، فقط لكي تقوم السلطات بمصادرة الأراضي التي تُركت غير مزروعة واضطر شاغلوها السابقون إلى البحث عن عمل في إسرائيل، وخاصة في قطاعي البناء والزراعة، حيث شكلوا مجمعاً للعمالة الرخيصة لأصحاب العمل الإسرائيليين.

وبحلول عام 1974، كان ثلث القوة العاملة الفلسطينية يعمل في إسرائيل، ونسبة أعلى من غزة. وسمحت هذه التبعية لاحقاً لإسرائيل باستخدام البطالة كعقاب جماعي، حيث أغلقت الحدود خلال فترات التوتر والانتفاضتين 1987-1993 و2000-2005. وفي الوقت نفسه، شجع ارتفاع أسعار النفط في دول الخليج العمال الفلسطينيين المهرة على البحث عن عمل هناك. وفي السنوات التي تلت الحرب، غادر نحو 700 ألف شخص إلى الأبد، بما في ذلك عدد غير قليل ممن طردوا.

وهدفت هذه السياسات إلى زيادة سيطرة إسرائيل على الفلسطينيين وتقويض الدعم الذي تحظى به منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات، زعيم حركة التحرير الوطني الفلسطيني، والتزامها بتحقيق الدولة الفلسطينية من خلال الكفاح المسلح. ففي أعقاب حرب عام 1967 مباشرة، نما اقتصاد الضفة الغربية بنسبة 15 في المئة سنوياً في حين نما اقتصاد قطاع غزة بنسبة 11 في المئة، مع تعافيهما إلى مستويات ما قبل الحرب. لكن في الوقت نفسه، انخفضت حصة الصناعة في الناتج المحلي الإجمالي الفلسطيني من 9% عام 1968 إلى 7% عام 1987.

[Photo by Fars Media Corporation / CC BY 4.0]

ووفقاً للأمم المتحدة، تراوحت خسارة إيرادات الاقتصاد الفلسطيني في الفترة من 1970 إلى 1987 ما بين 6 إلى 11 مليار دولار، أو 13% من الناتج المحلي الإجمالي. وسرعان ما حولت هذه التغييرات الأراضي الفلسطينية من مجتمع متنوع من الفلاحين وصغار رجال الأعمال والمهنيين إلى طبقة عاملة وجيش احتياطي من العمال لأصحاب العمل الإسرائيليين، الخاضعين للإملاءات الاقتصادية والسياسية لرأس المال الإسرائيلي.

كما كان للتطورات الدولية الأوسع أثرها. ففي أعقاب انهيار سوق الأوراق المالية في الفترة 1987-1988، أدى انخفاض أسعار النفط، وتناقص فرص العمل في الخليج، والسياسات الانكماشية المتبعة في الولايات المتحدة، والتكاليف المتزايدة للاحتلال وما نتج عن ذلك من عجز في الميزانية والتجارة، إلى انكماش كبير و الأزمة الاقتصادية في إسرائيل وارتفاع التضخم. 

بالنسبة للفلسطينيين، كان هذا يعني انخفاضاً حاداً في قيمة أجورهم، وتدهوراً مستمراً في ظروف العمل، وهي بالفعل أقل بكثير من ظروف نظرائهم الإسرائيليين، وفرص عمل أقل، وانخفاض دعم الميزانية. وتوسعت المستوطنات المبنية على الأراضي الفلسطينية المصادرة والأراضي التي تم الاستيلاء عليها لبناء طرق مخصصة للمستوطنين فقط وتأمين المستوطنات، مما أدى إلى مزيد من تقويض الاقتصاد الفلسطيني.

كان الانكماش الاقتصادي ، إلى جانب الغضب من الاحتلال العسكري الإسرائيلي الذي دام 20 عاماً وحربها على الفلسطينيين وحلفائهم في لبنان ، أحد العوامل التي أدت إلى اندلاع الانتفاضة الأولى في عام  عام 1987. واندلعت إلى حد كبير خارج سيطرة منظمة التحرير الفلسطينية، التي كان مقر قيادتها آنذاك في تونس بعد طردها من الأردن عام 1970 ولبنان عام 1982 وتخلي  الأنظمة العربية عنها.

هذه الظروف، إلى جانب التحول الأوسع نحو السياسة الإسلامية في العالم العربي بعد انهيار الوحدة العربية الناصرية، أفادت حركة حماس (حركة المقاومة الإسلامية) التابعة لجماعة الإخوان المسلمين، وهي جماعة دينية برجوازية رعتها إسرائيل وشجعتها في البداية في معارضة فتح . ولكن حماس، بأصوليتها الدينية، لم تقدم إلا شكلاً أكثر تطرفاً من القومية، عبر عن مصالح البرجوازية الفلسطينية وليس مصالح العمال والفلاحين.

أوسلو تضيق الخناق

بدأت الانتفاضة في ديسمبر/كانون الأول 1987 في مخيم جباليا للاجئين في غزة بعد أن اصطدمت شاحنة تابعة للجيش الإسرائيلي بسيارة مدنية، مما أدى إلى مقتل أربعة عمال فلسطينيين، من بينهم ثلاثة من المخيم. واستغرق الأمر من إسرائيل ست سنوات لقمع الانتفاضة بتكلفة أكثر من 1000 حياة فلسطينية، و175000 اعتقال، وهدم 2000 منزل. وقد دمر الصراع الاقتصاد الفلسطيني، حيث انخفض مستوى المعيشة بنسبة هائلة تراوحت بين 30 و40 في المئة.

[Photo by Abarrategi / CC BY-SA 4.0]

أقنعت الانتفاضة قادة حزب العمل الإسرائيلي، الذين خرجوا من السلطة منذ عام 1977، بالحاجة إلى التوصل إلى نوع من التسوية مع زعيم منظمة التحرير الفلسطينية عرفات وجيران إسرائيل العرب. واعتقدوا أن إنشاء دويلة فلسطينية من شأنه أن يساعد في ضمان استقرار إسرائيل وتنميتها والحفاظ على أغلبيتها اليهودية. وسيتولى عرفات والسلطة الفلسطينية دور إسرائيل في السيطرة على الجماهير الفلسطينية، مقابل قبول منظمة التحرير الفلسطينية باعتبارها الممثل الوحيد للشعب الفلسطيني. وأمل  حكام إسرائيل أن يضمن هذا الحكم الذاتي استمرار التبعية الاقتصادية، في حين يفتح أيضاً أسواقاً جديدة لا تستطيع دولة حامية  إسرائيل توفيرها على الإطلاق، وربما يحولها إلى قوة اقتصادية إقليمية.

يتبع

Loading