العربية

فشل منظمة التحرير الفلسطينية سياسياً وأصول حماس

الجزء 3

هذا هو الجزء الثالث وخاتمة هذه السلسلة المكونة من ثلاثة أجزاء. تم نشر الجزء الأول في 5 يوليو والجزء الثاني في 6 يوليو.

أدى الخوف من تصاعد الحركة الثورية للجماهير وخروجها عن السيطرة إلى قيام ياسر عرفات ومنظمة التحرير الفلسطينية في ديسمبر 1988 بالقبول رسمياً بدولة إسرائيل ورفض الكفاح المسلح.

أدى هذا الإعلان إلى إطلاق عملية تفاوض مطولة لحل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، بلغت ذروتها في اتفاقيات أوسلو في سبتمبر 1993، كمرحلة أولى نحو إقامة دولة فلسطينية مستقلة. كان من شأن مثل هذه الدولة تمكين البرجوازية الفلسطينية، التي جمعت أصولًا كبيرة في المنفى، من توسيع ثرواتها من خلال استغلال العمل المأجور الذي يضمنه جهاز الدولة الخاص بها. فمن وجهة نظر الإمبريالية الأمريكية والدولة الصهيونية، سيتم تكليف الرأسماليين الفلسطينيين، من خلال منظمة التحرير الفلسطينية، بمهمة مراقبة الطبقة العاملة الفلسطينية وضمان أمن إسرائيل.

وهذا بدوره يعني أنه بعد كانون الأول/ديسمبر 1988، واجهت حماس علناً منظمة التحرير الفلسطينية حول من يجب أن يهيمن على العمليات السياسية. ولجأت حماس بشكل واضح إلى الأعمال الإرهابية ضد الأهداف العسكرية والمدنية الإسرائيلية، كوسيلة لتعزيز مكانتها بين الجماهير. وفي مايو 1989، اعتقلت السلطات الإسرائيلية عدة مئات من أنصار حماس، بما في ذلك ياسين، لتورطهم في الإرهاب. وبعد مرور عامين تقريباً على بدء الانتفاضة، وبعد مرور عام على حظر إسرائيل مكتب اتصال  منظمة التحرير الفلسطينية في منظمة الأمم المتحدة، أعلنت إسرائيل أخيراً أن الحركة غير قانونية.

وبحلول ذلك الوقت، أصبحت حماس حزب المعارضة الرئيسي، واحتلت  بانتظام المرتبة الثانية بعد فتح في استطلاعات الرأي الطلابية والمهنية. وعندما وافقت منظمة التحرير الفلسطينية في أكتوبر/تشرين الأول 1991 على المشاركة في محادثات مدريد التي توسطت فيها الولايات المتحدة لإقامة دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل، دعت حماس إلى 'العودة الكاملة إلى الخيار العسكري' وطالبت بتمثيل يصل إلى 50% في جميع هيئات منظمة التحرير الفلسطينية. وقد تم رفض ذلك وسط اتهامات بأن حماس كانت ألعوبة في يد إسرائيل والولايات المتحدة، وأنها عازمة على الحلول محل منظمة التحرير الفلسطينية كزعيمة للحركة الفلسطينية.

وفي كل مرحلة، سعت حماس إلى تقويض المفاوضات من خلال شن هجمات إرهابية ضد أهداف إسرائيلية. ولا شيء يوضح وجهة نظرها المقيتة والمفلسة بشكل أوضح من إرسال كوادرها الشبابية، بالقنابل المربوطة إلى أجسادهم، لتفجير أهدافهم وأنفسهم كشهداء في سبيل قضيتهم. ومع دفع مبلغ 30 ألف دولار أمريكي لعائلاتهم نظير استشهادهم، يبدو الأمر كما لو أن هؤلاء الشباب كانوا أموات أكثر قيمة من العيش.

وعلى الرغم من رفض حماس لدولة إسرائيل، إلا أن هدفها لم يكن إفشال المحادثات وحل الدولتين بقدر ما كان إبطاء وتيرة تنفيذه. ورأت أنه كلما طال التأخير، زاد فقدان منظمة التحرير الفلسطينية للدعم.

وفي عام 1991، نظمت حماس سلسلة من المظاهرات والإضرابات بهدف تقويض فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية. و تحولت الانتفاضة من بشكل متصاعد من النضال ضد الدولة الصهيونية، إلى صراع بين مجموعات متنافسة من الرجال الملثمين. وبحلول يوليو/تموز 1992، تطور الأمر إلى معارك مستمرة بين حماس وفتح في شوارع غزة، خلفت 300 قتيل و100 جريح.

هدفت حملة التفجيرات الإرهابية التي شنتها حماس ضد إسرائيل إلى إثارة رد فعل صهيوني يميني ونسف خطط حكومة حزب العمل القادمة للتوصل إلى اتفاق مع منظمة التحرير الفلسطينية. وهي في الواقع عكست موقف المتطرفين الصهاينة في أيديولوجيتها وأساليبها. فبينما يدعي الصهاينة اليمينيون أن فلسطين كلها دولة يهودية لا مكان فيها لشعوب أخرى، أعلنت حماس ضرورة إقامة دولة إسلامية تستثني اليهود والمسيحيين. وقد أظهر كلاهما مراراً وتكراراً رغبتهما في استخدام الإرهاب لتحقيق هذه الأهداف.

بعد اتفاقيات أوسلو

نص اتفاق أوسلو على ترتيبات انتقالية لإقامة الدولة الكاملة من خلال إنشاء سلطة فلسطينية منتخبة كان يتلخص دورها في الحلول محل القوات العسكرية الإسرائيلية، وضمان مطالب إسرائيل الأمنية، وقمع حماس وغيرها من جماعات المعارضة. وعلى هذا فإن نجاح أوسلو اعتمد على مدى دعم حماس وغيرها من جماعات المعارضة للسلطة الفلسطينية. وكان الفشل في القيام بذلك يهدد باندلاع حرب أهلية بين السلطة الفلسطينية التي تهيمن عليها فتح وأي معارضة. 

وكان الدعم المستمر لعرفات يعتمد على مدى احتضان السلطة الفلسطينية باعتبارها مقدمة للدولة الفلسطينية وقدرتها على إحلال السلام وبعض التخفيف من المحنة الاقتصادية اليائسة التي يعيشها الفلسطينيون. وبما أن أوسلو أعطت بعض المصداقية المحدودة لمنظمة التحرير الفلسطينية وجلبت الأموال الدولية لشبكاتها الإدارية والأمنية التي يمكن استخدامها كمصدر للمحسوبية السياسية، فقد حدت من حرية حركة حماس في المناورة. 

وبناء على ذلك، وعلى الرغم من رفضها المتكرر لأوسلو، سرعان ما توصلت جماعة الإخوان المسلمين إلى اتفاق مع منظمة التحرير الفلسطينية بشأن طريقة العمل. وقع أسرى حماس ومنظمة التحرير الفلسطينية في أحد سجون غزة على اتفاق حظر العنف كوسيلة لتسوية الخلافات السياسية بينهما. وطالما وافقت منظمة التحرير الفلسطينية على عدم منح عفو للمتعاونين مع الصهاينة مقابل إطلاق سراح السجناء الفلسطينيين الذين تحتجزهم إسرائيل، فإن حماس لن تتدخل. وفي وقت لاحق، وفي إطار بحثها عن تسوية مع فتح، وافقت حماس على إنهاء 'حملات التشهير' ودعوات الإضراب في أيام مختلفة 'لتخفيف العبء الاقتصادي عن شعبنا'.

و شكلت حماس أيضاً علناً كتلة ضمت 10 مجموعات يسارية، وهو ائتلاف مقره دمشق يضم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين والجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، وكلاهما رفض أوسلو وحل الدولتين لكن الاتفاق لم يلزم حماس بأي شيء. والأهم من ذلك، أن الفصائل اليسارية في منظمة التحرير الفلسطينية، عززت من خلال التوصل إلى اتفاق مع أعدائها اللدودين، أوراق اعتماد حماس المناهضة للإمبريالية. وفي المقابل، عرّض الإخوان اتفاق ائتلاف دمشق للخطر عندما كان ذلك يناسبهم. وفي حين رفضت حماس المشاركة في الانتخابات الوطنية لمؤسسات السلطة الفلسطينية، فقد شاركت في الانتخابات المحلية 'لأنها'، كما نقل عن ياسين، 'أرادت أن يكون لها تأثير على الحياة اليومية للفلسطينيين في الأراضي المحتلة'.  وبعبارة أخرى، فإنها ستعمل كمعارضة مخلصة حتى يحين الوقت المناسب لها لتنطلق من تلقاء نفسها.

إن كون حماس لا تزال مستعدة لقبول مبادئ أوسلو بشرط منحها قدراً من السلطة السياسية يتجلى في حقيقة أنها التقت بقائد قوات الدفاع الإسرائيلية لمناقشة الاتفاقية. حتى أن شيمون بيريز من حزب العمل، الذي كان آنذاك وزيراً للخارجية، طرح فكرة مفادها أن إسرائيل سوف تطلق سراح سجناء حماس إذا تخلت عن الإرهاب. وكان موقفها فيما يتعلق بقوات الشرطة التابعة للسلطة الفلسطينية التي بلغ قوامها 10 آلاف فرد، و كانت مهمتها كبح جماح أي معارضة سياسية، هو: 'نحن نرحب بقوات الأمن الفلسطينية  بوصفهم أخوة'.

اتخذت السلطة الفلسطينية إجراءات صارمة ضد حماس بعد أن شنت ثلاث هجمات منفصلة أسفرت عن مقتل 25 إسرائيلياً وإصابة 50 آخرين دعماً لمطالبها بالإفراج عن السجناء، بمن فيهم الشيخ ياسين، الذي احتجزته إسرائيل، ومطالبة السلطة الفلسطينية بالتوقف عن تقديم معلومات عن الإسلاميين إلى السلطات الإسرائيلية. وفي وقت لاحق من عام 1994، اعتقلت شرطة السلطة الفلسطينية أكثر من 300 من نشطاء حماس بعد اختطاف جندي إسرائيلي ومقتله. وعلى مدى العامين التاليين، فقدت حماس الدعم مع هيمنة الاعتقاد بأن أوسلو سوف يؤدي إلى نتائج.

وفي غضون عامين أصبح من الواضح أن مفاوضات السلام لم تسفر عن أي فوائد ملموسة. لقد انتقلت الظروف الاجتماعية المروعة التي تواجه غالبية الفلسطينيين في الضفة الغربية وغزة من سيئ إلى أسوأ مع استمرار إسرائيل في الاستيلاء على الأراضي، في حين أنه كان من المفترض أن هذا محظور بموجب أوسلو، و تابعت  إحكام قبضتها على الاقتصاد الفلسطيني. وتحت ضغط مستمر من واشنطن والقدس، اضطرت السلطة الفلسطينية التي تهيمن عليها منظمة التحرير الفلسطينية إلى اتخاذ إجراءات صارمة ضد حماس وجماعات المعارضة الأخرى. وأصبح الكثيرون ينظرون إلى السلطة الفلسطينية باعتبارها مؤسسة فاسدة وغير ديمقراطية، ولم تكن في كثير من الأحيان أكثر من مجرد دمية في يد إسرائيل، ولا تستفيد منها سوى طبقة رقيقة من الموظفين ورجال الأعمال. و بكل المقاييس، احتفظت السلطات الإسرائيلية بالسيطرة الكاملة على ما يسمى بمناطق الحكم الذاتي.

ولم تستفد حماس من عجز منظمة التحرير الفلسطينية عن التغلب على القمع الوطني الذي يتعرض له الفلسطينيون فحسب، بل استفادت أيضاً من عجز السلطة الفلسطينية عن حل القضايا الاجتماعية الأكثر إلحاحاً. وبقدر ما كانت هناك مرافق اجتماعية، فقد تم توفيرها إلى حد كبير من قبل حماس، بفضل الممالك العربية. وهكذا أصبحت أكثر عدوانية في معارضتها لمنظمة التحرير الفلسطينية وكثفت أعمالها العسكرية ضد إسرائيل.

ففي ربيع عام 1996، بعد اغتيال رئيس الوزراء إسحاق رابين على يد متعصبين صهاينة يمينيين معارضين لأي اتفاق مع الفلسطينيين، وقبل الانتخابات في إسرائيل مباشرة، بدأت حماس موجة من التفجيرات التي أسفرت عن مقتل ستين إسرائيلياً وإصابة المئات. وكان هدفها جلب حزب الليكود اليميني إلى السلطة وبالتالي إفساد عملية أوسلو للسلام. وحتى يومنا هذا، كان هدفها إثارة ردة فعل إسرائيلية يمينية معتقدة أن الانتقام الحتمي والهمجي سيدفع الفلسطينيين إلى التخلي عن منظمة التحرير الفلسطينية وتبني منظور حماس. وكما كتب الصحفي في صحيفة هآرتس، داني روبنشتاين، بعد أوسلو: 'إن أنشطة حماس الإرهابية تحتوي على رسالتين سياسيتين رئيسيتين. الأولى موجهة إلى عرفات ومنظمة التحرير الفلسطينية مفادها ألا تجرؤوا على تجاهلنا؛ والثانية موجهة إلى دولة إسرائيل  هو أن المفاوضات مع منظمة التحرير الفلسطينية لا تشكل الكلمة الأخيرة وأنه يجب أن تؤخذ حماس أيضاً بعين الاعتبار'. بل إن ياسين نفسه أدلى بتصريحات أشار فيها إلى استعداد الإخوان للتفاوض مع إسرائيل بشأن الدولة الفلسطينية.

وطالما عرضت عملية أوسلو احتمال تحقيق بعض الفوائد، تمكنت السلطة الفلسطينية من كبح جماح حماس وغيرها من الجماعات المسلحة. وكان انهيار محادثات كامب ديفيد في يوليو/تموز 2000 سبباً في عجز عرفات عن بيع العصيدة البائسة التي تعرضها إسرائيل على شعبه و هذا أمر لم يستطع أن يفعله. وكان انهيار عملية السلام يعني بدوره أن المؤسسات والآليات السياسية التي أنشئت بعد أوسلو لم تعد قادرة على البقاء. أخيراً، انفجر الإحباط المكبوت لدى الفلسطينيين في سبتمبر/أيلول 2000، أثناء الزيارة الاستفزازية التي قام بها شارون إلى الأماكن الإسلامية المقدسة في مدينة القدس القديمة محاطاً بمئات الجنود. لكن الانتفاضة التي تلت ذلك كانت ضد السلطة الفلسطينية بقدر ما كانت ضد إسرائيل.

وأشارت استطلاعات الرأي الأخيرة إلى أن أكثر من نصف الفلسطينيين يعتبرون التفجيرات الانتحارية رداً مناسباً على إسرائيل، وأن حماس ستحصل على 25% من الأصوات في أي انتخابات مقبلة تقدم فيها مرشحين.

الطبقة العاملة تحتاج إلى بديل تقدمي للقومية

إن السمة الأكثر إثارة للدهشة في الأزمة الحالية في إسرائيل/فلسطين وفي جميع أنحاء الشرق الأوسط حيث توجد اتجاهات مماثلة هي عدم وجود بديل ثوري حقيقي للطبقة العاملة، سواء كانت عربية أو إسرائيلية.

ففي ظل هذه الظروف، لا يمكن لغضب وإحباط العمال والشباب الفلسطينيين أن يجد أي سبيل تقدمي للنضال. وتقوم العناصر الصهيونية الأكثر رجعية وعنصرية بدورها باستغلال يأس وقلق الإسرائيليين في مواجهة الهجمات الانتحارية للمطالبة باتخاذ إجراءات أكثر قمعية ضد الفلسطينيين، بما في ذلك إنشاء بانتوستانات مسيجة تذكرنا بحقبة الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، و'نقل' السكان؛ كناية عن التطهير العرقي.

وفي التحليل النهائي، فإن ظاهرة الجماعات الإسلامية السياسية مثل حماس ونظيراتها الصهيونية هي الثمن الذي دفعته الطبقة العاملة مقابل خضوعها لمختلف المنظمات البرجوازية الوطنية، مهما كانت راديكالية، التي كانت غير قادرة عضوياً على قيادة أي نضال مستقل ضد الإمبريالية على طريق تقدمي وديمقراطي. إن تحرير الشعب الفلسطيني من القمع الإمبريالي لا يمكن تحقيقه من قبل الفلسطينيين وحدهم. إن القومية، سواء كانت علمانية أو دينية، لا تؤدي إلا إلى عزل الطبقة العاملة عن القوى الأكثر قدرة على مساعدتها، أي إخوانها وأخواتها الدوليين، وإخضاعها لمصالح الرأسمالية.

وطالما أن النخبة السياسية الإسرائيلية قادرة على الاستمرار في حشد الطبقة العاملة خلف الدفاع عن 'الوطن اليهودي'، وطالما أن الجماعات الرجعية مثل حماس قادرة على توجيه النضال المستقل للطبقة العاملة الفلسطينية عبر الطريق المسدود المتمثل في إقامة دولة إسلامية، فإن هذا الوضع  سيستمر، وسيتخذ الصراع أشكالاً أكثر همجية ومأساوية من أي وقت مضى. إن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني متجذر في ما يقرب من قرن من المؤامرات التي دبرتها القوى الإمبريالية المتعاقبة لتقسيم واستغلال الطبقة العاملة في واحدة من أكثر المناطق أهمية استراتيجياً في العالم. تمثل المأساة التي تتكشف اليوم في إسرائيل/فلسطين، في جوهرها، الإرث المرير للمنظور القومي، والارتباك الأيديولوجي والارتباك السياسي الذي منع الطبقة العاملة من تبني بديل للاستغلال من قبل الطبقة الحاكمة والإمبريالية.

الجواب يكمن في النضال من أجل توحيد العمال العرب والإسرائيليين في نضال مشترك للدفاع عن مصالحهم المشتركة ضد الاستغلال الرأسمالي والقمع الإمبريالي وإقامة الدول الاشتراكية المتحدة في الشرق الأوسط. إن مثل هذا الحل يتطلب بناء قيادة ثورية جديدة على أساس برنامج الأممية الاشتراكية.

انتهى

Loading