العربية

محمود عباس وانحطاط الحركة الوطنية الفلسطينية

الجزء الأول

يعيد موقع الاشتراكية العالمية نشر سلسلة من جزأين، نُشرت في الأصل في عام 2005، عن محمود عباس، الذي أصبح رئيسًا للسلطة الفلسطينية بعد وفاة ياسر عرفات في عام 2004، وانحطاط الحركة الوطنية الفلسطينية إلى قوة الشرطة لإسرائيل تحت قيادته.

***

يأتي وقف إطلاق النار الذي أعلنه رئيس الوزراء الإسرائيلي أرييل شارون والرئيس الفلسطيني محمود عباس في منتجع شرم الشيخ المصري بعد أسابيع قليلة من انتخاب عباس لمنصبه. وهو يوضح مدى ارتباط صعوده بتخلي حركة فتح الحاكمة والسلطة الفلسطينية عن أي معارضة لمطالب واشنطن وتل أبيب.

لقد وُصِف وقف إطلاق النار بأنه بداية لتنفيذ 'خارطة الطريق' التي أعلنها الرئيس جورج دبليو بوش وإنشاء الدولة الفلسطينية في نهاية المطاف. ولكن لم يتم الاتفاق على موعد بدء المحادثات بشأن 'الوضع النهائي' لأي دولة فلسطينية، ناهيك عن القضايا الشائكة المتعلقة بالقدس الشرقية وحق اللاجئين الفلسطينيين بالعودة.

ووافق شارون، تحت ضغط من البيت الأبيض، على إنهاء جميع الأعمال العسكرية، ونقل السيطرة الأمنية على الضفة الغربية وقطاع غزة إلى السلطة الفلسطينية، وإطلاق سراح 900 سجين محتجزين في السجون الإسرائيلية خلال الأشهر الثلاثة المقبلة، وتنفيذ عمليات 'بناء ثقة' أخرى. لكن وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس قالت إن واشنطن لن تضغط على إسرائيل لتقديم المزيد من التنازلات إلا بعد الانتهاء من 'خطة فك الارتباط' لسحب المستوطنين من غزة وأربع مواقع استيطانية في الضفة الغربية. والأهم من ذلك أن أي تحركات أخرى ستعتمد على قيام عباس بقمع كل المقاومة المسلحة لإسرائيل، وكبح جماح الجماعات الإسلامية المسلحة، وإخضاع  مختلف الأجهزة الأمنية تحت سيطرته المركزية. بل إن رايس قالت إن واشنطن ستعين جنرالاً أميركياً سابقاً للإشراف على إصلاح قوات الأمن الفلسطينية.

وقد بذل عباس بالفعل جهوداً مضنية لاسترضاء إسرائيل. ومنذ وصوله إلى السلطة في التاسع من يناير/كانون الثاني، سعى إلى إقناع حماس والجهاد الإسلامي وكتائب شهداء الأقصى بإنهاء حملة التفجيرات ضد إسرائيل. فقد عرض على حماس احتمال تقاسم السلطة السياسية من خلال الموافقة على إجراء الانتخابات البرلمانية في شهر يوليو/تموز، التي من شأنها، نظراً لنجاح الحركة في الانتخابات المحلية الأخيرة في الضفة الغربية وقطاع غزة، أن تمنح حماس تمثيلاً سياسياً في المجلس التشريعي الفلسطيني. وفي الوقت نفسه، قام بنشر أكثر من 8000 شرطي في غزة لمنع الهجمات الصاروخية على أهداف إسرائيلية، واعتقال الانتحاريين.

وعلى الرغم من أن عباس سعى إلى حشد دعم واشنطن من خلال اتخاذ إجراءات ضد شعبه، الأمر الذي رفضه ياسر عرفات، زعيم منظمة التحرير الفلسطينية منذ فترة طويلة، إلا أن مساره الحالي يعبر مع ذلك عن انحطاط الحركة الوطنية الفلسطينية ككل. إنه انحطاط متجذّر في الطابع البرجوازي لمنظمة التحرير الفلسطينية نفسها.

ارتكز المنظور الأساسي لمنظمة التحرير الفلسطينية لإقامة دولة فلسطينية دائماً على التوصل إلى اتفاق مع الإمبريالية. وقد تم تحقيق هذا الهدف من خلال طريقتين: المفاوضات والكفاح المسلح. ورغم أنهما تبديان متعارضتين، إلا أنهما كانتا دائمًا متكاملة بشكل أساسي. لقد كان الهدف النهائي للكفاح المسلح دائماً هو التوصل إلى تسوية تفاوضية مع الإمبريالية، وليس التعبئة المستقلة للطبقة العاملة وجماهير الفلاحين. وبعبارة أخرى، فإن قبول عباس وقيادة منظمة التحرير الفلسطينية وقف إطلاق النار، وفرضه، لا يتعارضان مع منطق الكفاح المسلح، بل ينشأ عنه عضوياً.

كانت منظمة التحرير الفلسطينية من أكثر الحركات الوطنية راديكالية، وأنشأت قاعدة شعبية جماهيرية بين قطاعات واسعة من الشعب الفلسطيني بسبب دعوتها الحازمة إلى الكفاح المسلح ضد إسرائيل. لكن قيادتها في جوهرها كانت تمثل البرجوازية الفلسطينية ومصالحها، وليس مصالح الجماهير، كما زعمت. إن المنظمات البرجوازية الوطنية، مهما كانت راديكالية، غير قادرة عضوياً على قيادة نضال مستقل باستمرار ضد الإمبريالية على طريق تقدمي وديمقراطي لأن مصالحها، في التحليل النهائي، تتعارض تماماً مع مصالح الطبقة العاملة والفلاحين.

وبينما رأت الطبقة العاملة والفلاحون الفلسطينيون إنشاء كيان وطني من وجهة نظر استعادة الأراضي المسروقة منذ عام 1948 وإنهاء اضطهاد الإمبريالية والصهيونية، فإن الهدف الأساسي للبرجوازية الفلسطينية في صراعها مع إسرائيل هو إنشاء حكمه طبقتها الخاصة لتكون القاعدة  التي تركز على حقها في استغلال الطبقة العاملة. وعلى هذا النحو فإن معارضتها للإمبريالية تكون دائماً مشروطة وجزئية لا تهدف إلى إنهاء الهيمنة الإمبريالية، بل إقامة علاقاتها الخاصة مع القوى الإمبريالية الكبرى التي تهيمن على النظام الاقتصادي العالمي. وهي تسعى في جميع الأوقات إلى معارضة أي عمل سياسي مستقل تقوم به الطبقة العاملة من شأنه أن يهدد أساس الحكم الرأسمالي. ومن ثم، أصرت منظمة التحرير الفلسطينية، حتى في أكثر فتراتها راديكالية، على الاعتراف بها باعتبارها 'الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني' وعلى أن يظل منظورها لإقامة دولة فلسطينية على أساس علاقات الملكية الرأسمالية دون منازع.

وعلى هذا الأساس لم يكن من الممكن أبدا حل مشاكل الاضطهاد القومي والاستغلال الاجتماعي. لم تكن أي دولة في الشرق الأوسط، حتى حيث تمكنت الحركات الثورية الوطنية من التخلص من الحكم الاستعماري والوصول إلى النفط، قادرة على إنهاء هيمنة البنوك والشركات العابرة للحدود الوطنية أو تخفيف الظروف الاجتماعية المروعة للشعوب للطبقة العاملة ولفقراء الريف. وبدلاً من ذلك، قامت باستبدال حكامها الاستعماريين أو ملوكها الدمى بزمر برجوازية محلية فاسدة. وفي هذا أثبت منظمة التحرير الفلسطينية أنها ليست استثناءً.

إن اضطهاد الشعب الفلسطيني ليس نتيجة القوة العسكرية الإسرائيلية فحسب، بل نتيجة خيانة البرجوازية العربية. وكنتيجة مباشرة لاستراتيجيتها المتمثلة في العمل من خلال مختلف الأنظمة العربية لتحقيق الدولة الفلسطينية، لم يتمكن عرفات ومنظمة التحرير الفلسطينية قط من تحقيق أي استقلال عنهما أو عن داعميهم الإمبرياليين.

ولم يكن اعتماد عرفات على النظام الستاليني في الاتحاد السوفييتي للحصول على الدعم أكثر نجاحاً. لفترة من الزمن، وفّر التنافس بين موسكو وواشنطن من أجل الهيمنة على الشرق الأوسط لمختلف الأنظمة البرجوازية العربية بعض القوة التفاوضية. لكن هذا كان دائماً محدودا بإملاءات مناورات البيروقراطية الستالينية غير المبدئية مع القوى الإمبريالية وجهودها الخاصة لمنع الثورة الاجتماعية بأي ثمن. وفي النهاية، كان انهيار الاتحاد السوفييتي بسبب جهود الستالينية لاستعادة الرأسمالية في عهد غورباتشوف ويلتسين هو الذي أجبر عرفات أخيراً على السعي للتوصل إلى اتفاق مع الإمبريالية الأمريكية. وكان عباس هو الذي كان إلى جانبه خلال تلك المفاوضات الحاسمة.

من هو محمود عباس؟

إن صعود عباس إلى السلطة يرجع إلى حقيقة أنه يعبر باستمرار عن مصالح البرجوازية الفلسطينية. وهو ولد عام 1935 في مدينة صفد، الواقعة الآن في شمال إسرائيل، لعائلة تجارية ثرية للغاية. وعندما اندلعت الحرب العربية الإسرائيلية عام 1948 بعد أن صوّتت الأمم المتحدة لصالح إنشاء دولة صهيونية على جزء من فلسطين، ثم حكمتها بريطانيا بموجب انتداب من الأمم المتحدة، كانت عائلته واحدة من 750 ألف شخص فروا أو طردوا من فلسطين. وقد مكنه موقعه الاجتماعي المتميز من دراسة القانون في جامعة دمشق ومن ثم الحصول على تصريح للعمل في الخدمة المدنية القطرية قبل أن ينشئ مشروعه الخاص الذي حقق له ثروته.

وكان هناك في ذلك الوقت الآلاف من المهنيين الفلسطينيين العاملين في الخليج، وسرعان ما اتصل بحركة التحرير الوطني الفلسطيني أو حركة فتح التي يتزعمها عرفات، التي كان من المقرر أن تصبح جوهر منظمة التحرير الفلسطينية. وكانت حركة الفتح تمثل الجناح الأكثر راديكالية في الحركة الوطنية البرجوازية الفلسطينية. كان هدفها المعلن، وهو استعادة الأراضي التي استولت عليها إسرائيل وإنشاء دولة فلسطين ديمقراطية وعلمانية، أن يتحقق من خلال الكفاح المسلح واجتذب قاعدة شعبية بين الطبقة العاملة والفلاحين. لكنها عارضت دائماً المنظور الاشتراكي لصالح الدولة الفلسطينية الرأسمالية. وكان هذا التوجه الطبقي هو الذي مكّن فتح من استقطاب دعم الفئات الأكثر امتيازاً، مثل عباس.

صبح عباس جامع تبرعات مهم لفتح وكان مسؤولاً عن إقامة العلاقات مع الأنظمة العربية. وقام ببناء شبكة من الاتصالات القوية شملت القادة العرب ورؤساء أجهزة المخابرات. لقد استطاع أن يفعل ذلك لأن منظمة التحرير الفلسطينية قبلت بشرعية الأنظمة العربية ووافقت على فصل القضية الفلسطينية عن نضال الجماهير العربية ضد الدكتاتوريات والسلالات شبه الإقطاعية التي حكمتها.

وعلى الرغم من أن عباس استمر في إدارة الشؤون المالية لمنظمة التحرير الفلسطينية، إلا أنه كان ينتمي إلى الجناح اليميني لفتح ولم يكن عضواً في الدائرة الداخلية لمنظمة التحرير الفلسطينية، التي كان يقودها آنذاك عرفات وأبو إياد وأبو جهاد. وكانت علاقته مع عرفات عاصفة، وكانت هناك فترات طويلة رفض فيها الرجلان الحديث مع بعضهما البعض. نأى بنفسه عن الأنشطة الإرهابية لمنظمة التحرير الفلسطينية وبقي في سوريا بعد أن قام العاهل الأردني الملك حسين بقمع الفلسطينيين بهمجية فيما عرف باسم أيلول الأسود عام 1970، حيث طرد منظمة التحرير الفلسطينية من الأردن وأجبرها على الدخول إلى لبنان.

كان عباس من أوائل مسؤولي منظمة التحرير الفلسطينية الذين اعترفوا بإسرائيل ودعموا إقامة دولة فلسطينية صغيرة إلى جانب إسرائيل – وهو ما يسمى بحل الدولتين. وفي أواخر العقد الثامن من القرن الماضي ، كان له دور فعال في إقامة روابط بين الفلسطينيين وجماعات السلام الإسرائيلية. فمنذ عام 1980، تولى رئاسة دائرة العلاقات الوطنية والدولية في منظمة التحرير الفلسطينية.

ولم يصبح هو وأحمد قريع، رئيس الوزراء الفلسطيني، قريبين من عرفات إلا في عام 1988. وفي ذلك العام تم انتخاب عباس لعضوية السلطة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية. وقد سهّلت إسرائيل جزئياً صعوده إلى الصدارة، حيث كانت لديها سياسة استهداف القادة المتطرفين في منظمة التحرير الفلسطينية. واغتالت قوات الأمن الإسرائيلية كلاً من أبو إياد وأبو جهاد عام 1988، الأمر الذي مهد الطريق لانتقال السلطة إلى الجناح اليميني في فتح، الذي يمثله عباس وقريع.

والأهم من ذلك هو أن عباس كان المستفيد من تحولين سياسيين رئيسيين دفعا منظمة التحرير الفلسطينية إلى أحضان واشنطن.

أولاً، كان تحول البيروقراطية الستالينية نحو تفكيك الاتحاد السوفييتي ومواءمة سياستها الخارجية مع الولايات المتحدة الأمر الذي عنى أن منظمة التحرير الفلسطينية فقدت الحيز الضئيل الذي كانت تتمتع به للمناورة بين القوى الإمبريالية في السابق. لقد ترك انهيار الاتحاد السوفييتي أمام الولايات المتحدة فرصة غير مسبوقة لترسيخ هيمنتها العالمية في الشرق الأوسط، الأمر الذي  مكن هذا جورج بوش الأب من شن حرب الخليج ضد العراق في عام 1991. وقد تُرِكَت منظمة التحرير الفلسطينية معزولة تماماً، بعد أن دعمت صدّام حسين في محاولة أخيرة لتأمين قاعدة يمكن من خلالها معارضة إسرائيل والولايات المتحدة. 

ثانياً، اندلعت الانتفاضة، وهي انتفاضة عفوية للعمال والشباب الفلسطينيين ضد الاحتلال الإسرائيلي، في كانون الأول/ديسمبر 1987، وكان من المقرر أن تستمر على مدى السنوات الأربع التالية. ولم تهز الدولة الإسرائيلية وواشنطن فحسب، بل صدمت أيضاً البرجوازية الفلسطينية، التي كانت تخشى أن تتصاعد الحركة الثورية للجماهير وتخرج عن نطاق السيطرة في فلسطين وأماكن أخرى في الشرق الأوسط الغني بالنفط. وكان الرأسماليون الفلسطينيون في المنفى، الذين عكس عباس مصالحهم، يرون في ذلك تهديداً كبيراً لتطلعاتهم الاقتصادية والاجتماعية.

وفي مواجهة الشباب والعمال المناضلين في الداخل، خلصت البرجوازية الفلسطينية إلى أنها بحاجة إلى دعم الإمبريالية الأمريكية إذا أرادت أن تقيم حكمها الخاص. كانت هذه العوامل هي التي دفعت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية المعاد تشكيلها حديثاً إلى نبذ كفاحها المسلح في حديقة البيت الأبيض. لقد كان ذلك بمثابة نهاية الوهم الكبير لمنظمة التحرير الفلسطينية المتمثل في قدرتها على حل القضية الفلسطينية دون تسوية القضايا الطبقية الأساسية في الشرق الأوسط.

ومكنت هذه التطورات الولايات المتحدة من إملاء شروط استسلام منظمة التحرير الفلسطينية لإسرائيل والشكل المستقبلي لأي دولة فلسطينية. لقد كان عباس هو الذي، لعب دوراً رئيسياً في مؤتمر مدريد عام 1991 و في المحادثات السرية في أوسلو، وأصل التوقيع على اتفاقيات أوسلو المشؤومة عام 1993 مع إسرائيل نيابة عن منظمة التحرير الفلسطينية، كمرحلة أولى نحو قيام دولة فلسطينية مستقلة. 

يتبع

Loading