العربية
Perspective

في الذكرى الخمسين للانقلاب التشيلي: دروس من ثورةمغدورة

10 سبتمبر 2023

اقرأ أيضاً: 'من أرشيفات الماركسية: دروس انقلاب 1973 في تشيلي'، بيان اللجنة الدولية للأممية الرابعة، نشر في 18 سبتمبر 1973.

صادف اليوم الذكرى الخمسين للانقلاب العسكري سيئ الصيت الذي دعمته وكالة المخابرات المركزية في تشيلي بقيادة الجنرال أوغستو بينوشيه، و أسس أحد أكثر الأنظمة فظاعة في النصف الثاني من القرن العشرين.

ففي ساعات الصباح الباكر من يوم 11 سبتمبر 1973، أصدرت الفروع الثلاثة للقوات المسلحة التشيلية والشرطة العسكرية إعلاناً عبر الراديو بأنها سيطرت على البلاد وطالبت باستقالة الرئيس المنتخب سلفادور الليندي من حزب الوحدة الشعبية (الشعبي). وزعيم الحكومة الائتلافية.

حاصر الجيش والقوات الجوية قصر لا مونيدا الرئاسي وقصفوه بالطائرات الحربية والدبابات. بعد محاصرته ورفض الليندي طلب قادة الانقلاب بالاستقالة، مات الليندي في لا مونيدا، وفقاً للتحقيقات بعد إصابته بطلق ناري.

وفي اليوم نفسه، قام الجيش باعتقال عشرات الآلاف من العمال والشباب، واقتادهم إلى معسكرات الاعتقال حيث تم استجوابهم وتعذيبهم وقتلهم في كثير من الحالات. وصف الموسيقار الشهير فيكتور خارا الرعب الذي عاشه مع آلاف آخرين خلال أيامه الأخيرة في ملعب تشيلي، حيث تعرض للتعذيب السادي والقتل في 16 سبتمبر:

كم تعرضت البشرية للجوع والبرد والذعر والألم والضغط الأخلاقي والرعب والجنون؟

لقد ضاع ستة منا كما لو كنا في الفضاء المرصع بالنجوم.

مات أحدهم، وآخر تعرض للضرب، ولم أكن لأصدق أبداً أن إنساناً يمكن أن يتعرض للضرب.

أراد الأربعة الآخرون إنهاء رعبهم: قفز أحدهم إلى العدم،

و ضرب آخر رأسه بالحائط، لكن كل ذلك بنظرة الموت الثابتة.

يا له من رعب خلقه وجه الفاشية!

أطلقت عملية واسعة النطاق نظمتها وكالة المخابرات المركزية والمخابرات العسكرية الأمريكية لتحطيم جميع منظمات العمال والفلاحين، ومطاردة واحتجاز وتعذيب وقتل قادتها والعمال المتشددين الذين تخلت عنهم حكومة الليندي وتركتهم بدون أسلحة أو تدريب أو قيادة سياسية للمقاومة.

وفي الأشهر والسنوات التي تلت، باع نظام بينوشيه ما يقرب من ثلثي صناعة النحاس الرئيسية في تشيلي، التي تم تأميمها في عهد الليندي وسلفه؛ وتمت خصخصة أقسام البنوك، وشركة الهاتف، ومصانع المعادن وغيرها من الشركات التي وضعت تحت سيطرة الدولة من قبل الليندي؛ وتم إعادة المصانع والأراضي التي أخذها العمال إلى أصحابها من القطاع الخاص؛ وجرت خصخصة المياه والمعاشات والرعاية الصحية والتعليم والنقل والمرافق وغيرها من القطاعات. وتم تخفيض الضرائب واللوائح التنظيمية إلى أقصى حد لتحويل البلاد إلى ملعب للشركات عبر الوطنية الناشئة والأوليغارشية المحلية. لقد اتباع النظام تعليمات خبير اقتصاد 'السوق الحرة' ميلتون فريدمان وما يسمى 'أولاد شيكاغو'، وهم المساعدون الذين دربهم فريدمان من جامعة شيكاغو وتم إرسالهم إلى تشيلي للإشراف على موجة الخصخصة والهجمات الفظة على الظروف الاقتصادية وعلى الطبقة العاملة.

استمر الإرهاب الفاشي في تشيلي لمدة عقدين طويلين. وقُتل أو 'اختفى' آلاف المعارضين السياسيين على يد نظام بينوشيه، وتعرض نحو 30 ألفاً للتعذيب، وفقاً للأرقام الرسمية. كان للانقلاب في تشيلي أيضاً عواقب وخيمة على أمريكا اللاتينية بأكملها.

جاء صعود المؤسسة العسكرية التشيلية إلى السلطة في أعقاب سلسلة من الانقلابات التي رعتها الإمبريالية الأمريكية، بما في ذلك في البرازيل في عام 1964، وبوليفيا في عام 1971، وأوروغواي في وقت سابق من عام 1973. وكان النظام العسكري البرازيلي، الذي اعترفت به إدارة نيكسون أداة للعمليات الأمريكية، وعمل بشكل منهجي لإعداد الجيش التشيلي للإطاحة بالليندي.

بعد الانقلاب في تشيلي، تم توحيد هذه الشبكة المضادة للثورة التي نسقتها وكالة المخابرات المركزية في أمريكا الجنوبية تحت ما أطلق عليه اسم عملية كوندور. لقد نشرت بشكل منهجي القمع والتعذيب والاغتيالات السياسية في جميع أنحاء المنطقة وسهلت انقلابات جديدة، أبرزها صعود النظام العسكري الفاشي في الأرجنتين في عام 1976.

بعد خمسين عاماً من أحداث الحادي عشر من سبتمبر المروعة التي شهدتها شيلي، أصبحت أهميتها السياسية أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى. إن شبح الدكتاتورية والتدخل العسكري في سياسة أميركا اللاتينية، بعد دورة قصيرة من الأنظمة المدنية على مدى السنوات الثلاثين الماضية، يطارد المنطقة بالكامل من جديد.

وبدافع من التراكم المتفجر للعداوات الاجتماعية، الذي عبرت عنه الطبقة العاملة في عدد متزايد من النضالات، فإن أصدقاء بينوشيه، الذين لم ينزاحوا قط من السلطة في أي من هذه البلدان، يظهرون وجوههم مرة أخرى. وفي البرازيل، أيدت القوات المسلحة تحدي الرئيس السابق خايير بولسونارو للنظام الانتخابي في البلاد، الذي بلغ ذروته بمحاولة الانقلاب الفاشية في 8 يناير الماضي في برازيليا، و دعت إلى دكتاتورية عسكرية.

وفي تشيلي نفسها، حيث احتشد ملايين العمال والشباب ضد عدم المساواة الاجتماعية في إضرابات وطنية متكررة في عامي 2019 و2020، تعمل الطبقة الحاكمة الآن بشكل منهجي على تعزيز المدافعين الأكثر عنفاً عن ديكتاتورية بينوشيه. ويقود هذه العناصر حاليا خوسيه أنطونيو كاست، الذي فاز حزبه الجمهوري الفاشي بأكبر عدد من الأصوات في انتخابات شهر مايو الماضي لمجلس صياغة دستور جديد.

لقد كانت الإمبريالية الأمريكية بمثابة الراعي الرئيسي للديكتاتوريات في أمريكا اللاتينية. ولا تزال لاعباً مركزياً في المنطقة. وفي ظل الظروف التي تندفع فيها الطبقة الحاكمة في الولايات المتحدة نحو حرب عالمية جديدة، فإنها تقاتل علناً لتأمين هيمنتها الجيواستراتيجية في 'فنائها الخلفي'، وتعمل على تنمية العلاقات مع القيادات العسكرية في المنطقة، بشكل مستقل عن الحكومات المنتخبة.

ففي تحية بذكرى انقلاب عام 1973 في تشيلي، أصدر ممثلو 'المد الوردي' القوميون البرجوازيون، مثل الرئيس التشيلي غابرييل بوريتش، وكذلك اليسار الزائف البرجوازي الصغير، نداءات من أجل 'مواثيق وطنية' جديدة. ومن أجل ترميم واجهة شعبية للأنظمة الرأسمالية المفلسة في المنطقة. وهذا المسار السياسي من غير الممكن أن يؤدي إلا إلى تكرار الانقلابات على غرار ما بينوشيه وعلى نطاق أكثر فظاعة.

يجب على الجيل الجديد من العمال والشباب الذين يدخلون طريق النضال الثوري ضد الرأسمالية أن يستوعبوا بشكل عاجل دروس الانقلاب التشيلي الذي يعمل اليسار الزائف على إخفائه.

أظهر العنف الذي استخدمه المجلس العسكري الفاشي التشيلي القسوة التي كانت الطبقة الحاكمة مستعدة لاستخدامها للدفاع عن سلطتها.

الثورة التشيلية تعرضت للخيانة

لكن ما حدث في تشيلي عام 1973 لم يكن مجرد انقلاب عسكري دموي دعمته الولايات المتحدة وأطاح بحكومة منتخبة.

كانت هناك انتفاضة ثورية بروليتارية قوية جارية في تشيلي، والتي لم تكن هزيمتها تحت جزمة الجيش حتمية بأي حال من الأحوال. إن وصول الطغمة العسكرية الفاشية إلى السلطة كان نتاج فشل الطبقة العاملة في الاستيلاء على السلطة السياسية عندما كان بإمكانها ذلك، نتيجة للخيانات الإجرامية لقياداتها الستالينية والاشتراكية الديمقراطية ة، بمساعدة لا غنى عنها من قبل الطبقة العاملة.

تم انتخاب ائتلاف الليندي الاتحادي، الذي شكله الاشتراكيون والستالينيون مع الديمقراطيين المسيحيين 'اليساريين' والراديكاليين، في عام 1970 وسط تصاعد هائل لنضالات الطبقة العاملة والفلاحين. واستجابة للظروف التاريخية من البؤس والقمع من قبل الإمبريالية والأزمة التضخمية التي طال أمدها، اتخذت تلك النضالات أشكالا جذرية مثل احتلال المصانع ومصادرة الأراضي.

عندما تولى الاتحاد الشعبي السلطة، سعى بأي ثمن إلى تأديب الحركة التمردية للعمال والفلاحين وإخضاعهم للدولة البرجوازية. أطلق الليندي على ذلك اسم 'الطريق التشيلي نحو الاشتراكية'، وأصر على أن تشيلي، استناداً إلى قرن من الديمقراطية البرلمانية، كانت استثناءً لقوانين التاريخ التي وضعها ماركس وإنجلز، وتحولت إلى لحم ودم خلال ثورة 1917 في روسيا. وادعى أن العملية الثورية في تشيلي ستتبع مساراً فريداً، ينمو داخل هياكل الدولة القديمة. وأصر على أن القوات المسلحة والشرطة العسكرية في تشيلي هما 'الأشخاص الذين يرتدون الزي العسكري' و'الأساس الجرانيتي للعملية الثورية'، 'تماماً مثل' 'العمال ونقاباتهم'.

وفي حين عملت حكومة الوحدة الشعبية استرضاء الطبقة العاملة من خلال تنفيذ عمليات تأميم وإصلاحات اجتماعية محدودة، حظيت البرجوازية التشيلية والإمبرياليين الوقت للتحضير للإطاحة بالحكومة وسحق الطبقة العاملة. كان الطريق إلى 11 سبتمبر 1973 معبداً بهجمات متواصلة على الطبقة العاملة والعديد من التوغلات العسكرية ومحاولات الانقلاب المباشرة.

ففي أكتوبر 1972، حاولت الطبقة الحاكمة، بالتعاون المباشر مع إدارة نيكسون ووكالة المخابرات المركزية، خنق البلاد اقتصادياً من خلال تشجيع أصحاب العمل على إغلاق منشآتهم على نطاق واسع. استجاب العمال من خلال إنشاء العديد من المنسقين والعمل التعاوني وغيرها من الشبكات المحلية ضمن الهيئات الصناعية والأحياء للدفاع عن النفس وللحفاظ على إنتاج وتوزيع السلع الأساسية ومعارضة المحرضين الفاشيين. وانتشرت على نطاق واسع المطالبات بوضع الاقتصاد والسلطة السياسية مباشرة في أيدي العمال.

في مواجهة التطور المستقل للحركة العمالية، تحركت حكومة الوحدة الشعبية لنزع سلاح الطبقة العاملة وتأمين الحكم البرجوازي في تشيلي. أحضر الليندي الجيش إلى حكومته، التي انضم إليها أيضاً زعماء النقابات العمالية في CUT، التي يهيمن عليها الستالينيون والاشتراكيون. وفرضت الحكومة قانون الحد من الأسلحة لسحب الأسلحة من العمال والفلاحين، وحررت المحرضين الفاشيين، وأعادت العديد من المصانع المحتلة إلى أصحابها السابقين.

في يونيو 1973، قام جناح المتمردين في الجيش بمحاولة انقلابية فاشلة بإرسال رتل من الدبابات ضد القصر الرئاسي، وهي الحادثة التي أصبحت تعرف باسم تانكيتازو. وكان رد حكومة الوحدة الشعبية هو تعميق تنازلاتها، وتعيين بينوشيه قائداً أعلى للجيش وإحضاره إلى حكومة الليندي.

وحدها اللجنة الدولية للأممية الرابعة (ICFI) هي التي ناضلت باستمرار لفضح الدور الذي لعبته حكومة الليندي والمدافعون عنه في نزع سلاح الطبقة العاملة في مواجهة الخطر الواضح المتمثل في الانقلاب العسكري الذي نظمته الإمبريالية الأمريكية.

واستخلاصاً للعبر من الأيام التي تلت الانقلاب مباشرة، أعلنت اللجنة الدولية للأممية الرابعة في بيان صدر في 18 سبتمبر/أيلول 1973 ما يلي:

دافعوا عن حقوقكم الديمقراطية ليس من خلال الجبهات الشعبية والبرلمان، ولكن من خلال الإطاحة بالدولة الرأسمالية وتأسيس السلطة العمالية. لا تضعوا ثقتكم في الستالينية أو الاشتراكية الديمقراطية أو الوسطية أو التحريفية أو البرجوازية الليبرالية، بل ابنوا حزباً ثورياً للأممية الرابعة سيكون برنامجه هو الثورة الدائمة.

وفي حين كان الستالينيون والديمقراطيون الاشتراكيون هم الذين قادوا العمال التشيليين إلى الهزيمة بشكل مباشر، لعب التحريفيون البابلويون دوراً حاسماً في تمكين هذه القيادات البيروقراطية المبتلاة بالأزمات من الحفاظ على سلطتها.

كان الحزب التشيلي Partido Obrero Revolucionario (حزب العمال الثوري) من بين المنظمات التي خانت التروتسكية، وانضم إلى حزب العمال الاشتراكي الأمريكي في الانفصال عن اللجنة الدولية للأممية الرابعة وإعادة الشمل مع البابلويين. مشيدا بقوى الطبقة الوسطى 'التي حررتها الثورة الكوبية' باعتبارها 'القوى التي ستطلق العنان للثورة في كل بلد' في أمريكا اللاتينية، قام حزب POR بحل نفسه على الفور وانضم إلى الكاسترويين والماويين لتشكيل حركة ثورية. هي حركة اليسار-MIR) عام 1965.

لعبت الحركة الثورية دوراً أساسياً في تعطيل الثورة التشيلية، حيث وقفت في طريق بناء حزب ثوري حقيقي داخل الطبقة العاملة. مع تطور الصراع بين الطبقة العاملة التشيلية وحكومة الوحدة الشعبية ، جاء العديد من العمال الذين انفصلوا عن الاشتراكية الديمقراطية وعن الستالينية إلى حركة مير الثورية ، فقط ليتم إعادة توجيههم إلى 'ممارسة الضغط' على الحكومة لتحقيق مطالبهم.

كان الدرس الأساسي المستفاد من هزيمة تشيلي هو أن الطبقة العاملة كانت راغبة وقادرة على الاستيلاء على السلطة السياسية، لكنها افتقرت إلى العنصر الحاسم المتمثل في القيادة الثورية، وحزب يعتمد على التروتسكية واستيعاب الدروس المريرة من القرن العشرين.

ففي السنوات الأولى من العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، التي شهدت اندلاع أكبر أزمة في تاريخ الرأسمالية العالمية، ليس هناك شك في أن الطبقة العاملة دخلت مجدداً طريق النضالات الثورية. إن عولمة الإنتاج والنمو الهائل للطبقة العاملة في جميع أنحاء العالم والتطورات القوية في التكنولوجيا والاتصالات خلقت ظروفا مواتية للغاية لبناء الاشتراكية الدولية.

ولكن لشن نضالات ناجحة من أجل السلطة، يجب على العمال في كل بلد أن يستوعبوا الدروس التي كتبتها البروليتاريا التشيلية البطلة بالدم قبل نصف قرن. وهذا يعني قبل كل شيء بناء أقسام من حزب الثورة الاشتراكية العالمي في كل بلد، أي اللجنة الدولية للأممية الرابعة.

Loading